لعلّ التّاريخ يخدعنا، وتلك وظيفة مكر التّاريخ حين نحاول المكر به.. إن كان فوكوياما «قمش» من «كوجيف» نظرة مسطحة عن نهاية التاريخ، فهو كان حتى حينئذ ينظر إليه ككدح من أجل الاعتراف، يلغي شروطه الخفية في إسدال ستائره بعد وضع عبارة «نهاية» على شاشة السينما.. تاريخ أفقي مسطح لا مكر فيه.. إنّ الوجود الذي عدّ «هيدغر» مأواه الطبيعي في اللغة يتزلزل من تحت أقدامنا.. وآخر العهد بيننا وبينه هو اللغة التي تعلن اليوم اضمحلالها.. أحياناً وفي زمن «تلغون» الصّورة نتساءل ما قيمة البلاغة؟.. هل هو زمان سيميائي بامتياز؟ لكنها صورة تبحث لها عن العمق.. قد لا أجد مشكلة في هذا الاستبدال الأنطولوجي للغة.. لكن الصورة تبدو في بداياتها مسطحة غير قادرة عن التعبير عن عمق الأشياء.. إنها ما زالت في طور تفاهتها.. نحن في عصر سيميائي انتقالي.. لا شيء مثيراً هنا سوى البعد التقني لها.. هل تستطيع الصورة اليوم أن تعبّر عن الزمن الوجودي الحقيقي.. عن الصيرورة الباطنة للأشياء؟.
تسعى الصورة إلى بلوغ فكرة قديمة حاولت اللغة تحقيقها عبثاً: الكائن العاري.. نُذكّر بالإنسان العاري كسمة للأدب الفرنسي والأوربي عموماً في لفتة قديمة لتولستوي.. الصورة اليوم تقتحم كل شيء.. إن جزءاً من الخصاء الذي تشكله الصورة اليوم وتداولها هو تحقيق الكائن العاري.. لا يوجد شيء باطني ضامن لسيرورة المعرفة واستبدالاتها.. حين يتعرى كل شيء سنتحدث حينها عن نهاية تاريخ الأفكار.. لكن النهاية التي تعدنا بها تقنية الصورة هي أتفه مما كانت آمال البشر تتطلع إليها..هل نتحدث هنا عن خدعة تاريخية؟.. الأحلام البشرية باتت هي الأخرى موضوعاً للتصنيع..السعادة توجد خارجنا، تفاجئنا، هي ليست أكثر من متابعة هذه الصناعة والتماهي معها..تصنيع مستدام للماهيات.. هيمنة التكنولوجيا الفائقة التي تنتج التفاهة في حياة البشر.. إخصاء تقني عالي الجودة للباطن.. للمؤجّل.. للاّمفكّر، فيه مصدر سعادتنا أيضا وليس قهرنا فقط..الانحدار إلى ما يستحق أن نسمّيه أنطولوجيا الخصاء.. كائن عار من الأسرار ومن القيم الممانعة.. كائن لا بشرط التّعالي..لكنه غارق في كلّ شروط ضحالة الوجود.
هذا الكائن يعيش تحت طائلة «أنا» مثقلة بالأوزار، لكنها منتفخة بالزّيف.. هذا الانقلاب الذي منحته ثورة الصورة والتقنية والمساحة المقتطعة من الوجود لمصلحة الافتراضي الذي أخصى الواقع ومنح للتفاهة حقّ ملأ الفراغ.. مرض الوجود وعدوى الصورة وجريمة قتل الأب: الواقع.
ما قيمة البلاغة وقد تساوى التعبير بالصورة؟.. وهذا شيء لن يبقى طويلاً لأنّ الملل سيعيد فرض سؤال الواقع على مكر الافتراضي.. سيصدمه يوماً، سيعرّيه.. سيجعله ينتحر لمصلحة الأسئلة الكبرى.. هناك حالة عهر افتراضي تتجاهل الواقعي.. ثم لا ننسى أن للافتراضي تراتبيتة من العمق والتسطيح.. وعمقه يقع تحت أقدام الواقع لا محالة.. التحليل النفسي لـ«الافتراضي» يجعلنا أمام ذهان تسبّبه حالة التعويض المرضي عن شيء مفقود وفقر مزمن.. الافتراضي لا يعوض الواقع واقعاً، وإنما يهرب منه إلى الأمام، ويختبئ خلف «افتراضي» يجعل من القمّل واجهة العالم.. أنحن في تطور أم انحطاط؟.. نحن في مرحلة انتقالية حرجة..لا تسأل عن المعرفة العميقة والقيم العليا في عرس التّفاهة.. إنّ الثورة قادمة.. انتقام الواقعي من الافتراضي سيكون مرعباً.. حين تحدث الثورة من داخل «الافتراضي» نفسه وتعود لتقتل الأب المزيّف ومن دون حرج، لأنه وحده القتل الصحيح الذي من شأنه أن يعيد السواء إلى العقل والنفس..هناك حين يتوقف الضجيج ويخرج الفرسان من رماد الاحتراق الافتراضي..ستدخل الصورة مستوى آخر من التدبير.. ستساهم في أشكال متقدمة من العلم «الحضوري» فالصورة ما لم تضعنا أمام هذا المستوى من المعرفة لن تكون مجدية بل ستضعنا أمام «توتولوجيا» الوجود الذي تنتجه التفاهة اليومية التي مفادها: أنا هنا. حين نتحدث عن انتظار ثورة الواقع لا نقصد العودة إلى الوراء بعد كل ما تحقق في عالم التقنية والصورة..التقدم هنا ما زال لم يؤتِ ثماره.. لقد اعترضه قُطاع الطّرق.. الرعاع والدهماء وطبعاً الرّأسمالية المتوحّشة التي يهمها تراجع الوعي وتحول الكائن إلى «كلب عاو بعقل خاو». حتى الآن سعت الإمبريالية لاحتكار تدبير «الافتراضي» ووضعه في سياق الاستهلاك العمومي.. لمواجهة ثورة الواقع نُمنح فرصة لتعويض الواقع بهلوسات انتفاضات فارغة ما إن تنزل إلى الواقع حتى تكتشف أنها في حالة خصاء.. الصورة لغة، قد تخفف من بلاء البلاغة، لكنها ما زالت في طورها المغالط.. ما زالت لم تستشعر مؤامرة الإمبريالية على «الأنطولوجيا».. غير أنّ للوجود مكراً سيطيح بكل هذه التّفاهة.. فحين نقترب من الإعدام ينتفض الوجود.
*كاتب من المغرب