المعضلة لغويا تعني الطريق الضيقة المخارج او المسألة المشكلة التي لا يتبين وجهها، وسياسيا هي ازمة يصعب الخروج منها بسلاسة وبدون اثمان مدفوعة وتتعدد الجوانب والابعاد التي تسببت في تأزيمها.
وما يحدث في الجزائر يمكن ان ينطبق عليه لفظ المعضلة لعدة اسباب:
1ـ انها بلد عربي هام يحمل تراثا من التحرر الوطني واحتضن طويلا القضايا العربية المقاومة، ولم يتورط في تطبيع او تفريط رسمي، وهو ما لم ولن تنساه وتتركة الة الاستهداف الصهيو امريكية ومنظومة الغرب الاستعمارية.
2ـ ان سوابق الاحتراب الاهلي وما عرف بـ “العشرية السوداء”، شكل شبحا مخيفا يلوح في الافق عند كل تأزم سياسي.
3ـ ان الاطماع الغربية في بلد يحتوي على ثروات هائلة من الذهب واليورانيوم، ويعتبر اكبر منجم حديد بالعالم وخامس اكبر مصدر للفوسفات وسادس اكبر مصدر للغاز، وفقا لبيانات العام الماضي، تعيد الى الاذهان ذكريات المطامع الاستعمارية.
4ـ ان الجزائر مدرجة على خرائط التقسيم، ومستهدف لها ان تقام دولة خاصة بالبربر، والاحداث وتطوراتها في المغرب والمشرق العربي، تشي بأن مخطط التقسيم جدّ وليس بالهزل.
5ـ ان الاحتجاجات تأتي في عصر له مميزات خاصة من تعدد منصات التواصل وترصد عشرات وسائل الاعلام وذاكرة قريبة لثورات متنوعة بين ما هو مستحق وما هو مفتعل وملون، وتداخلات واختراقات ومصالح متعددة، وكل ذلك يخلق صعوبة ومخاطرة تلزم الاطراف كافة بعدم السماح لتطور الامور وسرعة لملمة الموقف.
هنا تكمن حساسية وخطورة اي ازمات جزائرية، لانها لا تصبح مشكلات داخلية، وانما تتعدد جوانبها واتجاهاتها لتتخطى حدود الجزائر مكانا وتستدعي تعقيدات التاريخ واثاره وامتداداتها زمانا.
عندما كانت الجزائر تشكل القوة والمنعة في حماية نفسها وحماية الدولة العثمانية، بادرت فرنسا في “مؤتمر فيينا” (1814/ 1815)م بطرح موضوع ” أيالة الجزائر” فاتفق المؤتمرون على تحطيم هذه الدولة في مؤتمر ” إكس لا شابيل ” عام 1819 م حيث وافقت 30 دولة أوروبية على فكرة القضاء على “دولة الجزائر” وأسندت المهمة إلى فرنسا وانجلترا.
وحينما تكون الجزائر قوة عربية كبيرة وتقف عائقا رسميا امام اي اجماعات على التفريط والتطبيع، فليس علينا الا ان نتوقع ان قرارات غير معلنة ربما اتخذت لتدميرها.
ولعل المخاوف الابرز على الجزائر والتي تتمثل في عدة اشياء يبرز منها خطران كبيران يستدعيان التوقف:
الاول: يتعلق بالفشل الاقتصادي الذي يستتبع معه فشلا اجتماعيا وضعفا سياسيا باعتبار القاعدة السياسية القائلة بأن فائض القوة الداخلية ينعكس على قوة السياسة الخارجية، وقد عاشت الجزائر تجربة اقتصادية مريرة واوشكت على انهيار مجتمعي عند لجوئها للخصخصة والتي عدلت عنها في العام الماضي بعد ان اتخذت قرارات بعودتها، ولكن التجربة الاولى ونتائجها منعت مخاطرة التكرار، واليوم يضغط صندوق النقد الدولي بتقاريره على الجزائر، وهناك نخب تتحمس للصندوق وتعليماته، واي ضعف سياسي قد يسمح للصندوق بفرض المزيد من الضغوط والتدخلات، واي انقسامات ستجعل الجزائر فريسة لمنظمات العولمة.
الثاني: الفشل السياسي بوصول الحالة السياسية الى طرق مسدودة تسد بها منافذ تمثيل القوى السياسية وتعبيرها ومشاركتها، ليصبح الشارع واحتجاجاته هو ميدان هذا التمثيل، بما يحتويه هذا الشارع من مخاطر غير محسوبة تنفذ منها الاختراقات والمؤامرات وتختلط بها المطالب الوطنية بالمطالب الاستعمارية، ناهيك عن التطورات غير المضمونة العواقب لاي اشتباك او حدث عرضي او مفتعل.
لعل من المفيد هنا ان نتذكر حادث المروحة، الذي اتخذته فرنسا ذريعة لاعلان الحرب وانتهى باستعمار الجزائر، وملخصه، ان القنصل الفرنسي بيار دوفال ذهب إلى قصر الداي حسين يوم عيد الفطر، وهناك طالب الداي بدفع الديون المقدرة ب 24 مليون فرنك فرنسي، عندما ساعدت الجزائر فرنسا وانقذتها من الجوع، بعد حصار الدول الأوروبية عليها بسبب الثورة الفرنسية. فرد القنصل على الداي بطريقة غير لائقة بمكانته إضافة إلى أن الداي صاحب حق، فرد الداي حسين بطرده ولوح بالمروحة. فبعث شارل العاشر بجيشه بحجة استرجاع مكانة وشرف فرنسا. وهذه الذريعة كانت السبب في الحصار على الجزائر سنة 1828 لمدة 6 أشهر وبعدها الاحتلال ودخول السواحل الجزائرية.
ما هي الضمانات لعدم افتعال حوادث مروحات جديدة عند اي تطورات تخص النخب المحسوبة على فرنسا بالجزائر؟
ولا ننسى ان فرنسا ركزّت أنظارها على الخيرات الاقتصادية وجعل استثمار المرجان حكراً لها؛ إذ كانت سواحل القالة وعنابة تشتهر به وتزخر، وتمّ إبرام سبعٍ وأربعين اتفاقية بين البلدين في الفترة الممتدة من 1619-1830م وكانت الغالبية العظمى في هذه الاتفاقيات لصالح الجانب الفرنسي.
وشركات البترول والشركات المتعددة الجنسيات تنظر للجزائر وخيراتها ذات النظرة الفرنسية للمرجان.
هنا يتطلب الخروج من هذه الورطة حلاً يشمل الاقتصادي والسياسي، والعاجل الان وبعد التطورات والنذر المقلقة، هو الحل السياسي، والذي يجب ان يكون مقنعا عملا بقاعدة “اذا اردت ان تطاع فاطلب ما هو مستطاع”، وعلى من بيدهم مقاليد الامور مراعاة هذا البعد وتجنب ممارسات ادت الى تفاقم الاوضاع.
ولعل أي مخرج يقهر الشعب او كرامته او يأتي نتيجة قمع قد تترتب عليه فواتير دولية تدفع من استقلال قرارات الجزائر وخياراته السياسية والاقتصادية.
كما لا ينبغي التدخل في شؤون الجزائريين والوصاية عليهم، كما نرى في منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام، فهذه التدخلات تشكل تضخيما للازمة وتضفي عليها ابعاداً ليست لها، ولكن ما يملكه كل غيور على الجزائر وتوجهاتها وتاريخها هو ان ينصح جميع اطراف ازمتها بالتعقل وعدم فتح الباب للعناد، سواء من الشعب او الجيش والسلطة الحاكمة، وتغليب الصالح الوطني على اي اعتبارات اخرى، والشروع بالتوافق على مخرج سياسي واقتصادي يضع الجزائر في مكانة تليق بمواردها وخيراتها، ويتسق مع كرامة جيشها وشعبها على السواء.