لم تكن التدابير الاستثنائية التي أقدم عليها الرئيس التونسي قيس سعيد لتكتمل، من دون مقترح دستور جديد(*)، يعوّض الدستور القديم، المؤلف من طرف مجلس تأسيس، وقع انتخابه عشوائيا ودون أدنى نظر، ويغلق الباب أمام ثغراته المتعددة، فجاء أغلب نوابه لا تخصص لهم في ذلك، ومنهم من احتمى بالترشّح للمجلس، لينال حصانة لشخصه من التتبع الجزائي، نتيجة ملف أو أكثر من ملفات الفساد المتعلقة به، أو ليخفي نشاطاته الغير قانونية، من خلال تقلّده صفة نائب في البرلمان.
فقد جاء في ديباجة الدستور الجديد، تأكيد على مطالب الشعب المشروعة في الشغل والحرية والكرامة الوطنية التي ثار من أجل تحقيقها، ولكنّه بعد أن ملك زمام أمره لم يحصل منها على شيء تقريبا، كان لا بدّ من القيام بعمل ما، يفسح المجال لتحقيق أهدافه.
وأشاد بحركة التحرر الوطني، التي توّجت استقلال البلاد من الهيمنة الأجنبية، وعبّر من خلال هذه المقدمة أنّه يسعى إلى تحقيق العدل والحرّية والكرامة،(فلا سلم اجتماعي دون عدل، ولا كرامة للإنسان في غياب حريّة حقيقية، ولا عزّة للوطن دون سيادة كامـلة، دون استقلال حقيقي.)، وأنّ الهدف من تأسيس دستور جديد، يتوازى مع قيام دولة ومجتمع القانون، متجانسين في تعبير صادق عن إرادة الشعب، وعزمه على احترامها، وأكّدت الديباجة على انتماء البلاد التونسية للأمّة العربيّة، وللقارة الإفريقية، وحرصها على التمسّك بالأبعاد الإنسانيّة للدّين الإسلامي،( وهو تحقيق مقاصد الإسلام، في الأمن والسّلم والعدل) .
ولم يغِبْ عنها التأكيد على مبدئيّة، رفض تدخّل الدّولة في تحالفات خارجية، وعلى أن يتدخّل أحد في شؤونها الدّاخلية، كما أكّدت التمسّك بالشرعيّة الدولية، والإنتصار للحقوق المشروعة للشّعوب في تقرير مصيرها بنفسها، وأوّلها حق الشعب الفلسطيني في أرضه السّليبة، وإقامة دولته عليها بعد تحريرها، وعاصمتها القدس الشّريف ( وهذا الإلتزام يؤكّد على أنه لا تطبيع مع الكيان الصهيوني، وإن كان لا بد من التنصيص عليه).
أما ما جاء في الفصل الخامس من الباب الأول الأحكام العامة، أنّ تونس جزء من الأمة الإسلاميّة، وعلى الدّولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الاسلام الحنيف في الحفاظ على النّفس والعرض، والمال، والدّين والحريّة (الفصل25/26/27/28/37/38/40/41 /42 من الباب الثاني من الحقوق والحريات)، وهي كذلك في الفصل السابع جزء من المغرب العربي الكبير، وهي بالتالي تعمل على تحقيق وحدته في نطاق المصالح المشتركة.( ووحدة المغرب العربي مشروع مسوّفٌ، عشنا على وهم تحقيقه، منذ تأسس صوريا في 17/2/1989 واليوم نريده أن يكون واقعا اقتصاديا وسياسيا نعيشه، ولو بيننا وبين الشقيقة الجزائر، وبعد ذلك ينفتح المجال لبقية الدول المنتسبة جغرافيا إليه).
وركّز في الفصل الخامس عشر على معضلة التهرب الضريبي الذي تعاني منه البلاد ووصفه بالجريمة في حق الدولة والمجتمع، وأشار الفصل السادس عشر على أنّ ثروات الوطن هي ملك للشعب وواجب الدّولة العمل على توزيع عائداتها بالعدل والانصاف بين جهات البلاد، وأنّ أيّ اتّفاق بخصوصها يجب أن تعرض عقود استثماره على مجلس النواب والمجس الوطني للجهات والأقاليم للموافقة عليها، كما أشار الفصل الثامن عشر إلى مسؤولية الدولة في توفير الوسائل القانونية والمادية للعاطلين عن العمل لبعث مشاريع تنموية، ومعالجة لما يعانيه المواطن من بيروقراطية، فقد أكّد الفصل التاسع عشر على أن الدولة بمرافقها هي في خدمة المواطن على أساس الحياد والمساواة، وأن أي تمييز يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون.
أمّا في الباب الثاني من الحقوق والحرّيات فقد جاء في الفصل الثاني والعشرين ضمان الدولة لجميع المواطنين حقوقهم في الحريّة الفردية والعامة وأسباب العيش الكريم، وأنّهم في الفصل الثالث والعشرين متساوون في الحقوق والواجبات أمام القانون، وجاء في الفصل 32 أن حق اللجوء السياسي مضمون طبق ما يضبطه القانون وبالتالي يمنع تسليم المتمتعين باللجوء السياسي، مثلما وقع لرئيس وزراء القذافي البغدادي المحمودي إلى ليبيا وهي جريمة يجب ان لا تمرّ دون معاقبة من تسبب فيها.
أمّا في الفصل 44 فجاء فيه انّ التعليم الزامي إلى سنّ السادسة عشرة، والدولة ضامنة لحقّ التعليم العمومي بكامل مراحله، وتسعى إلى توفير الإمكانات الضرورية لتحقيق جودة التعليم والتّكوين، وتأصيل النّاشئة في هويّتها العربية والإسلامية وانتمائها الوطني وترسيخ اللغة العربية ودعمها وتعميم استخدامها والانفتاح على اللغات الأجنبية والحضارات الانسانية ونشر ثقافة حقوق الانسان.
وجاء في الفصل 46 أنّ العمل في ظروف لائقة وبأجر عادل حق لكل مواطن، وتتّخذ الدّولة التدابير الضرورية لضمانه على أساس الكفاءة والإنصاف، ( وهذا فصل ليس من السهل تحقيقه في ظل قصور الدولة وانعدام وعي المواطن، أما الفصل 49 المُعنون بحق الثقافة، فإنّ مصطلحات حرية الإبداع الثقافي وتدعيم الثقافة الوطنية وتأصيلها وتنوعها وتجددها بما يثري قيم التسامح ونبذ العنف والانفتاح على مختلف الثقافات، وعلى الدولة حماية الموروث الثقافي على أساس أنه حق للجميع.
كما أكّد الدستور الجديد في فصله 51 على وجوب حماية الحقوق المكتسبة للمرأة والعمل على دعمها وتطويرها، مع ضمان تكافئ الفرص بين الجنسين في تحمّل المسؤوليات في جميع المجالات، وتحقيق التناصف بينهما في المجالس المنتخبة، والقضاء على العنف ضدّ المرأة.
وجاء الباب الثالث تحت عنوان الوظيفة التشريعية في الفصل 56 بخصوص مجلس نواب الشعب كمجلس أول، ومجلس وطني للجهات والاقاليم كمجلس ثان، قد فوض لهما الوظيفة التشريعية في سَنّ القوانين والأحكام، وأن النواب المنتخبين لا يمكنهم ممارسة أي نشاط، خلال فترة نيابتهم بمقابل أو بدونه، وأنّ نيابته قابلة للسحب وفق الشروط التي يحددها القانون الانتخابي، ولا يسمح في الفصل 62 لأي نائب منسحب من كتلة، الإنتقال إلى أخرى، ومتعلّقات جزائية بالمخالفات التي قد يرتكبها بعض النوّاب في الفصل 65 و66.
الجديد في الدستور المصوّت له بنسبة 94.6%، جاء القسم الثاني، المُعنْون بالمجلس الوطني للجهات والأقاليم في الفصل 82، ويتكوّن من ثلاث نواب منتخبين يمثلون جهاتهم، وينتخب كل مجلس نائبا واحدا من بينهم، لتمثيل جهتهم بالمجلس الوطني للجهات والأقاليم، ولهذا المجلس دور الرقابة والمساءلة في مختلف المسائل المتعلقة بتنفيذ الميزانية ومخططات التنمية.
وفي الباب الرابع المعنون بالوظيفة التنفيذية جاء في الفصل 87 أن رئيس الجمهورية له الوظيفة التنفيذية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس حكومة، وأن الفصل 88 من القسم الأوّل تحت عنوان رئيس الجمهورية أن رئيس الدولة دينه الإسلام، فلا يرأس البلاد ملحد أو كتابي، وان الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية حق لكل تونسي غير حامل لجنسية أخرى( وهذا الشرط جديد وجدير بالاعتبار) الاشكال الوحيد هنا هو ما تضمنه هذا الفصل من انحدار المترشح من اب وام كلهم تونسيون دون انقطاع، بما يعنيه من تقديم اثبات التسلسل الاسري للمترشح، وهو من شأنه أن يكون عائقا بدوره، لمن تنقطع أصوله عند جد محدد، فتكون أصوله مثلا تركية أو أندلسية أو جزائرية أو ليبية، وهؤلاء ليسوا بالقلة القليلة، وإنما شريحة هامة من التونسيين.
والجديد في الفصل ال90 جاء فيه تحديد الترشح لمنصب رئيس الجمهورية مرّة واحدة بعد ترشّحه الأول فلا يجوز له تجديد ترشّحه مرة اخرى، وهذا عامل إيجابي لم يكن موجودا من قبل، والجديد الآخر جاء في الباب الرابع، تحت عنوان الوظيفة القضائية، بدلا عن السلطة القضائية، التي كانت عنوان أبواب أحكام في الدستور المنتهي، ففي الفصل 117 أن القضاء وظيفة مستقلة، يباشرها قضاة لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، وهذا أساس العدل في البت في قضايا المجتمع والبلاد.
لا شكّ بأنّ الدستور الجديد بما تضمّنه من ايجابيات، يحتاج إلى توسّع وضبط وتعديل، ذلك أنه دستور وضعيّ وليس إلهيّ حتى يكون سليما من النقائص التي تحتاج إلى تدقيق أكبر لسدّ الثغرات فيه، وهذا دور مجلس نواب الشعب، الذي سيقع انتخابه في أواخر هذا العام، لتدخل تونس حكومة وشعبا مرحلة جديدة من البناء الفعلي النّافع للوطن، وبرأيي أن من عارضوا هذا الدستور، ليسوا على حقّ فيما اتخذوه من مواقف، وقد سلبوا عن انفسهم الروح الوطنية باستقوائهم بالخارج، ومبرّراتهم جميعها لا تتيح لهم القيام بما قاموا به من عداء لصاحبه وتأليب عليه.
المرجع
* – مشروع الدستور التونسي الصادر بالرائد الرسمي تحت عدد 578 بتاريخ 30جوان 2022