أصدرت محكمة الجنايات الدوليّة يوم الجمعة 17 مارس 2023 مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” بتهمة ارتكاب “جريمة حرب” على خلفية النزاع في أوكرانيا.
قرار عبرت عنه المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا بنبرة ساخرة في رسالة عبر تطبيق تلغرام قائلة إن “قرارات المحكمة الجنائية الدولية عديمة الأهمية بالنسبة لبلدنا… وباطلة”.
وتابعت زاخاروفا أن “روسيا ليست طرفا في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وليست عليها التزامات بموجبه”، مضيفة أن روسيا “لا تتعاون” مع المحكمة أساسا مضيفة أن مذكرات “التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية باطلة قانونيا” بالنسبة لروسيا.
تنوعت التفاعلات المتعلقة بهذا القرار بين من وصفه بالقرار التاريخي والجريء والذي طال انتظاره ومنها ما رآه قرارا استعراضيا واستفزازيا في حين شبّهه البعض الآخر بـ “ورق المرحاض” وهو ما جاء فعلا في تغريدة على منصة تويتر لنائب رئيس مجلس الأمن الروسي “ديمتري ميدفيديف”.
ماهي محكمة الجنايات الدولية ؟
أنشئت المحكمة الجنائية الدولية كمحكمة خاصة (Ad Hoc) لمحاكمة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لأحكام القانون الدولي الإنساني على إقليم يوغسلافيا السابقة اعتبارا من أول جانفي 1991 بقرار مجلس الأمن رقم 827 لسنة 1993 الصادر استنادا إلى أحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
ثم في عام 1994 بدأت سلسلة من المفاوضات الحثيثة لإنشاء محكمة ”دائمة” تمارس اختصاصها في الجرائم الدولية الجسيمة. في النهاية اعتمد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المعروف اليوم باسم نظام روما الأساسي في جويلية عام 1998 في العاصمة الإيطالية.
في 11 أفريل 2002 تحول القرار إلى معاهدة ملزمة، وصارت المحكمة كياناً قائماً بصفة قانونية في الأول من يوليو من عام 2002. وفي العام نفسه سحبت إسرائيل وأميركا توقيعهما على قانون المحكمة وأشارتا إلى أنه لم يعد هناك ما يجبرهما على تنفيذ الالتزامات المترتبة على الدول الأعضاء.
وعلى الرغم من أن هناك حوالي 123 دولة حول العالم إلى حد الآن قد صادقة على هذا القرار الذي تحول لاحقا إلى معاهدة إلا أن الدولة الروسية التي وقعت على نظام روما الأساسي سنة 2000 ولم تصادق عليه بعد تحوله إلى معاهدة قد قامت بسحب توقيعها حيث لا ترى مصلحة في استمرار عمل هذه المحكمة الذي شاب عملها عديد الانتقادات بسبب الاعتبارات السياسية التي تمارسها.
تشمل قائمة الجرائم التي تتدخل فيها المحكمة الدولية الجرائم المتصلة بانتهاك حقوق الإنسان كالجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية فضلا عن الجرائم المتصلة بانتهاك السلام والأمن الدوليين كجرائم الحرب وجرائم العدوان.
ماذا جاء في قرار محكمة الجنايات الدولية بحق روسيا ؟
أصدر قضاة الدائرة التمهيدية لدى محكمة الجنايات الدولية قرارا بتوقيف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والسيدة “ماريا لفوفا بيلوفا” مفوضة حقوق الطفل لرئيس الاتحاد الروسي على خلفية الحرب في أوكرانيا، وفي سياق ردود الفعل على مذكرة التوقيف بحق بوتين، رحب المستشار الألماني “أولاف شولتس” بعد صدور القرار بيوم فقط وقال في مؤتمر صحفي مشترك عقد في طوكيو مع رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا “المحكمة الجنائية الدولية هي المؤسسة الصحيحة للتحقيق في جرائم الحرب… الحقيقة هي أنه لا يوجد أحد فوق القانون وهذا ما أصبح واضحا الآن”.
كما قال الرئيس الأمريكي “جو بايدن” أن الرئيس الروسي فلاديمير ارتكب بوضوح جرائم حرب، وإن قرار المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرة اعتقال بحقه له ما يبرره.
في حين أفادت الخارجية الفرنسية: نعتقد في وجود أدلة كافية لإقامة الادعاء بحق بوتين وماريا لفوفا بيلوفا في ترحيل أطفال أوكرانيين حسب مذكرة الاعتقال الصادرة من الجنائية الدولية.
جاء هذا القرار من محكمة الجنايات الدولية استنادا إلى المادة الثامنة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، حيث تتمثل بقيام الرئيس الروسي بحثّ الجنود الروس على ارتكاب أفعال تدخل في دائرة الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف المؤرخة 12 أوت 1949. وتتمثل هذه التجاوزات والانتهاكات في الترحيل غير القانوني للسكان والأطفال والنقل غير القانوني للسكان الأوكرانيين، وقيام دولة روسيا على نحو مباشر أو غير مباشر بنقل أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلها وإبعاد ونقل كل سكان الدولة الأوكرانية أو أجزاء منهم داخل هذه الأرض أو خارجها.
كريم خان مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية
قرار بطعم السياسة ؟
اتخاذ المدعي العام لدى محكمة الجنايات الدولية قرارا بفتح تحقيق من عدمه في خصوص موضوع ما يتعلق باختصاص المحكمة يخضع لمراحل عديدة، في المرحلة الأولى يتم التثبت وفرز المعطيات المتوفرة لدى الإدعاء العام للتأكد من صحتها وانطلاقا منها يتخذ القرار إمام بالحفظ وعدم مواصلة التعهد أو مواصلة العمل والانتقال للمرحلة اللاحقة.
في المرحلة الثانية يتم التمعّن في المعلومات توصّلا إلى إحدى نتيجتين، إمام نتيجة إيجابية وإمام سلبية لعدم كفاية أدلة الإدانة.
وفي المرحلة الثالثة يبدأ التحقيق بعد توصّل المدعي العام إلى إقراره بمباشرة التحقيق والذي تنجر عنه استتباعات عديدة على رأسها تقديم طلب إلى الدائرة التمهيدية لمباشرة التحقيق في الأفعال موضوع الشكوى مرفقا بما يتوفر لدى الإدعاء العام من مؤيدات ووسائل إثبات وهو ما نصت عليه المادة 15 (2) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
وبالرجوع إلى قرار الدائرة التمهيدية في ملف الرئيس بوتين نجد أنها استعملت لغة غير معتادة في تعليلها لقرارها بمباشرة التحقيق في الملف الروسي الأوكراني حيث استعملت مصطلح “الاحتلال الروسي” لكن الدائرة التمهيدية تفاجئنا بمحاولة تحييد الدولة الروسية بأكملها وحصر نطاق المسؤولية في الرئيس بوتين فقط اعتمادا على الفصل 25 من نظام روما الأساسي.
هذه السياسة التي تعمد إلى التفريق بين الرئيس والدولة تهدف بلا شكّ إلى تحييد الشعب الروسي وحصر معركتها مع بوتين شخصيا سعيا إلى محاولة إيجاد بوادر انقسام داخل المؤسسة العسكرية الروسية وداخل المجتمع الروسي كذلك.
إثارة الدائرة التمهيدية للمسؤولية الجنائية الفردية للرئيس بوتين ليس بالأمر الجديد أو المستحدث، لكن الغريب هو اتجاه الدائرة التمهيدية نحو ارساء التجريم الفردي لبوتين وسعيها لتحميله المسؤولية الجنائية بشكل فردي في حين غضت الطرف عن الفقرة الرابعة من الفصل 25 من نظام روما الأساسي الذي أرسى مسؤولية الدول بموجب القانون الدولي الانساني.
يغلب الظن هنا على أن محكمة الجنايات الدولية اعمتدت هذا التكتيك في الضغط على بوتين وروسيا واللجوء إلى نظام المسؤولية الفردية تمهيدا لاثارة المسؤولية كاملة للدولة الروسية لاحقا ولكن المعطيات السياسية والمتغيرات الإقليمية تجعل الوضع غير مناسب من جعل الشعب الروسي يحس بوجود تهديد خارجي يستهدف أمنه القومي اسمه محكمة الجنايات الدولية، فكان خلق انقسام قانوني وسياسي في الجبهة الداخلية الروسي السمة الأبرز والعنوان الأمثل لما انتهجته محكمة الجنايات الدولية.
قراءة أخرى تذهب إلى القول بأن قرار قضاة محكمة الجنايات الدولية بعد التشكي الأوكراني ليس سوى قرصة أذن لممارسة سياسة الضغط القصوى على الدولة الروسية وعلى بوتين شخصيا سعيا لإنهاء الحرب في أوكرانيا وهذه السياسة ليس غريبة على الولايات المتحدة الأمريكية التي تستطيع عن طريق لوبياتها المتنفذة في المنتظمات الأممية وعلى رأسها محكمة الجنايات الدولية التأثير على عمل قضاتها حفظا لمصالحها الإستراتيجية في ممارسة عملية الاستنزاف متعدد الجبهات على روسيا.
من يستطيع اعتقال بوتين ؟
في حقيقة الأمر قرار إصدار مذكرة الإيقاف لا يعدو كونه قرارا فلكلوريا استعراضيا غير قابل للتطبيق على أرض الواقع ورغم أم محكمة الجنايات الدولية سبق وأن حاكمت عديد الزعماء والرؤساء من قبل على غرار “سلوبودان ميلوسيفيتش” (الرئيس اليوغوسلافي السابق) وتشارلز تايلور (رئيس ليبيريا السابق) و”رادوفان كارادجيتش “رئيس جمهورية صرب البوسنة السابق و”راتكو ملاديتش” قائد سابق في جيش جمهورية صرب البوسنة إلا أن اعتقال أي مطلوب لدى هذه المحكمة يتطلّب تعاونا من الدول الأعضاء.
قال رئيس المحكمة “بيوتر هوفمانسكي”، في بيان مصور إنه “بينما أصدر قضاة المحكمة الجنائية الدولية أوامر التوقيف، فإن الأمر متروك للمجتمع الدولي لتطبيقها” حيث أن المحكمة لا تمتلك شرطة خاصة بها تستطيع تنفيذ أوامر الاعتقال فضلا عن أن روسيا ليست طرفا في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وليس عليها أي التزامات بموجبه.
وحتى الدول الأعضاء في نظام روما الأساسي الأكيد أنها ستنأى بنفسها على القيام بمغامرة اعتقال الرئيس الروسي إذا زار أراضيها تجنبا لردة فعل الدولة الروسية التي لا يمكن توقعها وقد سبق أن استقبلت عديد الدول محالين على أنظار هذه المحكمة الصادرة بشأنهم مذكرات اعتقال لكنها امتنعت عن تنفيذها ولعل المثال الأبرز هو الرئيس السوداني السابق “عمر البشير” الذي زار عددا من الدول على غرار جنوب افريقيا والأردن وغيرهما رغم انه ملاحقا قضائيا من محكمة الجنايات الدولية.
ورغم أن محكمة الجنايات الدولية لا تستطيع محاكمة المشتبه بهم غيابيا لكن المدعي العام للمحكمة أفاد أن لديها وسائل أخرى للتحقيق في بعض القضايا المعروضة على أنظارها حيث قدم مثالا عن ملف “جوزيف كوني” زعيم “جيش الرب للمقاومة” الذي ارتكب جرائم في أوغندا ولكنه مازال حرا طليقا إلى اليوم حيث طلب المدعي العام في هذا الملف من قضاة المحكمة عقد جلسة استماع لتأكيد التهم الموجهة إلى زعيم هذه الميليشيا مؤكدا أن هذا الإجراء قد يكون متاحا لأي حالة أخرى بما في ذلك ملف الرئيس بوتين.