بقلم: سيرين الخضراوي |
تخترق الرموز التاريخ وتطفو على السطح بين الحقبات وبين القارات لتعبّر عن رفضها لكل اشكال الهيمنة. تحدث د.محمد الصالح عمري عن لقاءه في المكسيك بشخصين أمليكار وأخيه حنبعل فأخبراه بأن أباهما أستاذ تاريخ ويناصر حق السكان الأصليين لأمريكا الجنوبية فأختار اسمين لابنيه كرمزين للمقاومة.
طُمست العقول العظيمة في قرطاج حينما أحرقت مكتبتها. وكما يقول ابن رشد للأفكار اجنحة. لذلك سال الحبر في كتابات العدو الروماني عن دستور قرطاج، حتى من خلال أقلام العدو وجدنا عظمة قرطاج تتحرر من الكاتب وتظهر ظهور العظمة وان كانت تحت سلطة النقد. ولأن تحرير الأرض لن يكون إلاّ بتحرير الكتابة وحتى لا تضيع خصوصيتنا تحت أقدام المستعمر الذي يذيبنا ثقافيا. علينا أن نكتب عن أنفسنا. ان المتحدث عن قرطاج اليوم تنسب له جميع الاتهامات بالعمالة لأن الإمبريالية تسطو على رموزنا وتشهرها سلاحا في وجهنا. كيف أستطاع الغرب ان يجعل من تاريخه نقطة قوة وبقينا نحن لا نقدر على استثمار أي حضارة من الحضارات المتلاحقة على أرضنا. ما أحاول الحديث عنه هو أن نجعل من الحديث عن قرطاج لا حرب داخلية بين الحضارة العربية والحضارة القرطاجية. اتحدث عن قرطاج لتكون رمزا لمقاومة الهيمنة في العالم وسلاح في يد الديكولونياليين. هكذا نقوم بتثوير التاريخ لصالح حاضرنا.
ان هزيمة قرطاج على يد أعدائها الرومان هو ما جعلها تكون الهامش الذي ليس من حقه أن يتحدث عن نفسه أو أن يؤرخ تاريخه بل تاريخ قرطاج كتب من وجهة نظر المركز أي العدو الروماني المنتصر، حتى ما كان إيجابيا في قرطاج من ديمقراطية وحرية تعبير دُوِّن على انه نقطة ضعف وسبب انهيارها. هكذا عودنا كُتّاب التاريخ أن نقرأ التاريخ من وجهة نظر المنتصر. علينا أن نكف عن القراءة عن انفسنا بعيون الآخر علينا ان نكتب نحن بانفسنا أساطيرنا وتاريخنا. سلطة العوام اسقطت قرطاج بالأمس واليوم تحت غطاء الانتخابات الديمقراطية تٌستعملُ العوام للهيمنة على تونس. انتهى الغزو على الطريقة التقليدية حيث تأتي الاساطيل الحربية وتحط على أرض قرطاج اليوم ظهر غزو جديد حيث يخترقنا العدو عبر الديمجوجية أو سلطة العوام التي أصبحت جيوشا امام صناديق اقتراع تنتخب الكمبرادور الذي يحافظ على جميع مصالح الاستعمار الاقتصادية والثقافية عبر صناديق الانتخابات. قرطاج بالأمس عانت من الديمجوجية التي أربكت حنبعل فكان يحاول إرضائهم من جهة والتصدي لروما من جهة أخرى. فهل ننجح اليوم في التصدي إلى الهيمنة الإمبريالية التي تضع يدها على جميع رموزنا الدينية وتحولها سلاحا لصالحها كما صنعت ” داعش” وكذلك تسطو على رموزنا التاريخية وتحاول جعل قرطاج قضية انفصالية كما فعلت بقضية الأكراد في المشرق. وتغذي الطائفية فينا وتقسم صف وحدنا وتلهينا عن قضايا التحرر. لذلك سنخوض حرب التحرر حاملينا رموزنا الدينية جاعلين منها لاهوت تحرر ورموزنا التاريخية قرطاج وحنبعل هكذا علينا أن نفتك رموزنا من تجار المعرفة وتجار الدين ونجعلها رموزا معرفيا وروحيا للمقاومة.
وفي تواصل لهذه الهيمنة الثقافية نجد ان أقسام الفلسفة في تونس تدرس الفلسفة من وجهة نظر المركزية الغربية فيدرّس اول ظهور للديمقراطية ولصراع الطبقات على الحكم بداية من أثينا ونقرا عن فلاسفة تؤسس للفلسفة السياسية من سقراط دون أن نعرف إن كانت المكتبة القرطاجية التي أحرقتها روما حاملة لعقول كبيرة في الفلسفة السياسية أمّ لا.. بل أن دستور قرطاج يعتبر نتاج عقول فلسفية كبيرة مشرعة للنظام يمزج بين الديمقراطية والارستقراطية التي ألهمت أرسطو ليكتب نظريته السياسية داعما النظام الدستوري او ما يُطلقُ عليه أيضا النظام الجمهوري.
كيف نستثمر عبر التأمل في التاريخ لفهم ما يحصل اليوم دون ان نقع في اسقاط الحاضر على الماضي. فلتاريخ سياقته ولحاضرنا سياقات أخرى.
الحديث عن أثينا وقرطاج بطريقة مقارنة لن يكون منصفا مهما حاولنا الانصاف لأن أثينا تتحدث عن نفسها من خلال كتب فلاسفتها أما قرطاج المهزومة يتحدث عنها عدوها بعد المحرقة بعد أن منعها حق الكلام وطمس ما كتبته عن نفسها. المؤرخ بوليبيوس الاغريقي رغم انحيازه لروما إلاّ انه يقدم مقارنة بين دستور قرطاج ودستور روما ويثني على الدستور القرطاجي.
كذلك نجد الفلسفة تنصف قرطاج وأقصد بهذا ارسطو الذي تحدث في كتاب السياسية وبالتحديد في الباب الثامن من الفصل الثاني من كتاب السياسة يقول أرسطو:”كان لقرطاجنة أيضا فيما يظهر دستور حسن أوفى من دستور الدول الأخرى في كثير من النقاط…تلك الحكومات الثلاث كريت واسبرتة وقرطاجنة بينهما مناسبات كبرى وهي أنظمة فاضلة، وعلى الرغم ما حولت الأمة من نصيب في الحكم، لم ير البتة في قرطاجنة تغير في الحكم ولم يكن بها لا ثروة ولا طاغية، وذلك شيء حقيق يلفت النظر.” وأعتقد ان لدستور قرطاج تأثيرا كبير على نظرية أرسطو. فأرسطو يرفض النظام الديمقراطي لأنه متكون من الطبقة الفقيرة فالفقر على حد اعتباره يعدم النفس كذلك يرفض أرسطو النظام الارستقراطي الاوليغرشي بقيادة الأغنياء لأن الثراء يفسد النفس ويؤمن ارسطو ان لنظام الديمقراطي إيجابيات وسلبيات وينسحب ذلك على النظام الارستقراطي. فمحاولة أرسطو النظرية هي الجمع بين إيجابيات كل من هذين النظامين لينتج نظام حكم دستوري.
إن أسوأ الحكومات حسب أرسطو هي الحكومات الملكية ويحبذ أن يكون الحكم ارستقراطيا لان هذه الطبقة متعلمة ولديها المعرفة والخبرة في حين ان الطبقة العاملة متعصبة للفقراء وجاهلة لا يحق لها ان تنتخب فالانتخابات حسب ارسطو مقتصرة على الخبراء والمتعلمين أصحاب الفكر والمعرفة.
في حين يعتبر أن للأرستقراطية سلبيات عديدة وهي حكم الأقلية والأقلية سريعة الفساد على عكس الأغلبية كما أن الارستقراطية لديها شراهة جمع الأموال وهذا يجعلها تحيد عن الارتقاء بالبلد وإصلاحه يعتبر أرسطو إن للديمقراطيين محاسن هو أن كثرتهم تقلل الفساد.
” إذا اعتقد ارسطو أن هذا النظام المختلط، يجب أن يكون بذلك وسطا ذهبيا بينهما، أسماه أحيانا النظام الدستوري وأحيانا أخرى النظام الجمهوري ”
نحن ندرس كل هذا الابداع الارسطي دون أن نسلط الضوء على أن النظرية هي محاولة لجعل دستور قرطاج فلسفة تساعد اليونان لخروج من الصراع الارستقراطي والديمقراطي.
السؤال المطروح كيف تهزم قرطاج بعظمة دستورها ؟
تحدث المؤرخ التونسي محمد الطاهر عن هذه المصادر الرومانية والتي تربط بين أسباب سقوط قرطاج وحرية التعبير المغالي فيها. في تأريخ الشعوب لنفسها يتحدثون عن الظاهرة الصحية للاختلافات ولصرعات الطبقية. وبما أن قرطاج لم يسمح لها ان تتحدث عن نفسها فتحدث عنها العدو قائلا بأن فضاءها كان فضاء تكالب على السلطة وان الكلمة كانت من حق من ليس له الحق في الكلام أي الجهلة الفقراء وما يطلق عليهم بالديمجوجية في الفلسفة اليونانية. فالعدو لم يكن من صالحه ان يتحدث عن قرطاج بموضوعية.
ولكن ما الذي حصل حتى تقع هزيمة مدمرة بقرطاج. يقول المؤرخ محمد الطاهر: “وصول عائلة البرقيين للحكم وهي عائلة اميلكار سيقع حياد عن هذا الدستور بسبب ما يسمى علو صوت العامة على حساب الارستقراطية وأصبح للعامة دور كبير في التحكم في مجريات الأحداث في قرطاج. وأهم ظاهرة بارزة وقعت هي حرية التعبير المبالغة فيها في هذا الزمان”. ليس فقط مشكلة قرطاج من كانت تعاني من مشكلة علو صوت العامة. وكان سقراط أول معادٍ لنظام الديمقراطية والذي أعدم على يد سلطة العوام. سقراط المعلم الفقير الزاهد محبوب الشباب لم يكن يتلقى أموالا مقابل تعليمه الشباب وكان لا يكاد يجد قوت يوميه. ما يلفت النظر لدى سقراط انه رغم فقره المدقع لم يكن في صف الجماهير الفقيرة التي يقودها التيار الديمقراطي ولكنه انتقد بشدة الطبقة التي ينتمي إليها. والأغرب أيضا أن يكون بملابسه الرثاء محبوب الشباب الارستقراطي على رأسهم أفلاطون. وكان تلاميذ سقراط من جميع فئات المجتمع فنجد ابن الديمقراطي وابن الفوضوي وابن الارستقراطي فقد نجح في افتكاك شباب أثينا من التعليم الرسمي الذي تشرف عليه سلطة السفسطائيين.
اشتد غضب الجماهير على سقراط لنقده الديمقراطية لأنها مكنت العوام من السلطة. وما جعل حقد رئيس الحزب الديمقراطي يشتد على سقراط هو أن ابنه أصبح من تلاميذ سقراط وأصبح يسخر من آلهة أبيه.
حين وصول الحزب الشعبي الديمقراطي للحكم قرر تصفية سقراط المتهم بالمنظر للأرستقراطية ومفسد الشباب وجاعل الشباب يكفر بآلهة أثينا ورغم أن القضاة أرادوا الإفراج عن سقراط ولكن الجماهير الشعبية الغاضبة صوتت لإعدامه.
الحكيم الفقير كسقراط حرك العقول لينتج لنا من أكبر العقول المؤثرة في التفكير البشري.
كيف لفقير أن يغير التاريخ. فالصراع لم يكن صراع الفقير والغني بل كان صراع الديكتاتوريات. ديكتاتورية الأغلبية الفقيرة أو ديكتاتورية الأقلية الغنية حيث أراد أفلاطون تنصيب العقل والحكمة بعيدا عن هذه الثنائية قد يكون الحكيم غنيا وقد يكون فقيرا لذلك.
يتشابه موت سقراط بموت حنبعل كلاهما يموت على يد العوام لكن وضع حنبعل كان أكثر تعقيدا فقد كان يعاني علو صوت العامة في الداخل وقهر روما في الخارج. يقول: المؤرخ تيتوسليفيوس: على غير ما كان متوقعا كان حنبعل من الذين نادوا بقبول هذه الشروط على قسوتها غير أن أحدهم قام خطيبا يقول لا يمكن أن نقبل بذلك قالوا حنبعل اندهش هو نفسه مسك بالرجل وألقاه ارضا. عمّت الاجتماع نوبة من الاستياء. كيف يعامل إنسان بهذه الطريقة واثار ذلك دهشة حنبعل فقال غادرت هذه البلاد في سن لا يتجاوز التاسعة عدت إليها بعد 36 سنة ما يتعاملون به اليوم ” يقصد حرية التعبير المبالغة فيها” يقول علموني نواميسكم الجديدة تتشابه هزيمة حنبعل شهيد الوطن القائد الحربي العظيم بسقراط الحكيم شهيد حرية التعبير وكلاهما كان ضحية العوام الذين يقتلون اليوم أوطاننا بطريقة مغايرة عبر انتخاب الكمبرادور الذي يبيع أوطاننا للعدو دون ان يخسر العدو رصاصة واحدة ولا فلسا واحدا في هذه الحرب اللامرئية.
مشكلة الديمقراطية التي عانت منها قرطاج تُطرحُ اليوم بقوة في الفلسفة المعاصرة الان باديو يعيد افلاطون للفلسفة ويرفع عنه تهمة عدائه للديمقراطية ويعرض ديمقراطيته كحل للوهم الديمقراطي الذي يوصلوا الالوغرشية للحكم. هل من الممكن أن نجعل قرطاج رمزا للمقاومة الهيمنة الإمبريالية في العالم اليوم من خلال احياء تاريخها للمقاومة عبر حنبعل الذي عانى من سلطة العوام من الداخل ومن الغزو الروماني الخارجي. أو من مقاومة المركزية الغربية التي تدعي احتكار العقل والعبقرية بالحديث عن دستور قرطاج من خلال كتاب ارسطو. ارسطو الذي كان واضحا في تأسيسه لنظرية الحكومة الدستورية أو الحكومة الجمهورية يحلم أن تكون لأثينا نواميس قرطاج دون أن يقولها صريحا نقرأها من خلال فلسفته في كتاب السياسات.
والدولة العادلة حسب افلاطون هو ان يكون الحكم في يد طبقة الحكماء والفلاسفة وان تتكون طبقة الجيش من الشجعان الذين تسيطر عليهم العاطفة أما الطبقة الاقتصادية في يدّ من غريزة البطن تسيطر عليهم فهم الأكثر تنافس على جمع المال.
والخلل يكمن عندما تتولى العاطفة أو الشهوات الحكم فهنا تكمن الكارثة ويخرب المجتمع. واقترح أفلاطون منظومة تكون عادلة في تقسيم الفرص من حيث اتاحة جميع الفرص امام جميع الناس ووحدها الكفاءة التي تخوّل للمجموعة من الأفراد أن يكونوا في أعلى هرم في السلطة وهكذا يكون قد نظّر للقطيعة امام الأنظمة السابقة فالأرستقراطية تورث أبناءها الحكم والبرجوازي يصل الي الحكم عن طريق المال والنظام الديمقراطي يتيح الفرصة للعوام والجهلة ويخدم لصالح الفقراء وهم من يقررون مصير المدينة والتي بسهولة تنخدع بشخصية تجيد الخطابة ليخدعهم و بسهولة يحول نظام الحكم الي نظام ديكتاتوري و كذلك بسهولة يخدع رجال الدين العوام ويتحول نظام الحكم الي حكم ثيوقراطي دولة دينية ديكتاتورية
فالديكتاتورية تبقى دكتاتورية سواء قادها العوام الفقراء أم المتعلمين الأرستقراطيين أو عبدة المال البرجوازية فيمكن أن نقع في صراع بين 3 دكتاتوريات وجسد هذا الصراع في انقسام العالم إلى عالمين عالم يدافع عن ديكتاتورية العوام الفقراء الاتحاد السوفياتي وعالم يدافع عن ديكتاتورية رأس المال التي يصبح فيها المال إله الجميع. فالإنسان يباع ويشترى وتجند كل العلوم والفنون والفلسفة لخدمة رأس المال.
ما يمكن أن نلاحظه أن العصر القديم بأكمله يتصدى لخطاب العوام لذلك نجد ابن رشد في كتابه فصل المقال بميز بين أنواع الخطاب وفرق بين الخطاب الجدلي والخطاب البرهاني. اليوم المشكلة اصبحت أعمق حيث أصبحت الجماهير تنتخب الجلاد وتنتخب بائع الأوطان وتنتخب مسبب فقرها. وكأن سقراط وحنبعل يتكررون لكن بطرق مختلفة في أجساد أخرى وفي أوضاع أخرى تونس اليوم تنخرها الخيانة والعدو واحد. الهيمنة هي نفسها وللعوام نفس الدور الذي أسقط قرطاج ولكن آليات القمع تحولت إلي آليات تخدير العقول بالتدين الليبرالي وبالإعلام التهريجي و استثمار التاريخ لأضعافنا من الداخل.