ليس أشد وقعا على النفس، من الأسى واللوعة والحزن، حين تذكر أن لك وطنا باكيا، وليس في مقدورك تعبيرا عن الإخلاص والوفاء له، غير أن تذرف الدموع حزنا على مآسيه ولوعة على فراقه، وذكرياته الحلوة الجميلة!
عرفت السلط وأهلها البررة الطيبيين، حين عملت في مطلع الثمانينات طبيبا لبعض الوقت فيها، ولاحقا مدرسا للمهن الطبية لقرابة أربع سنوات، في كلية مجتمعها قبل أن تتطور إلى “جامعة البلقاء التطبيقية”. وحتى اليوم لا أزال كلما اشتدت قسوة الغربة عن الوطن الحبيب، تقفز إلى ذهني ذكريات عشير أهلها الخيرين، وسرعان ما ينتابني الشعور بالشوق والحنين، الذي لم يبارحني طيلة عقود وسنين، تارة أرده إلى الأصالة والجود الذي قل لهما مثيل، وأخرى أنحوه على التلقائية البعيدة عن التكلف، في التواضع والترحيب بالآخرين التي ندر لها نظير، ثم لا يلبث من داخلي هاجس يتمتم وهو يقول، ربما كان “المنسف البلقاوي” الذي حسرة لم تتذوق لطعمه شبيه، منذ أن غادرت تلك البقعة الطاهرة، قبل عقدين من الزمان وستة أعوام تزيد!
تاريخ السلط العريق، التي حباها الله بالخضرة الخلابة الجذابة، ويشهد عليه ذلك التراث العمراني الذي ليس له مثيل، لن تفيه حقه سطور مهما طالت وأسهبت في التفاصيل، فكيف على “مدينة الأوائل” التي كانت أول من أنشأت مدرسة ثانوية، في فيض من كثير، وتخرج منها الكثيرين من الرجالات الأحرار الوطنيين، الذين تمتد جذورهم من اليمن ونجد والحجاز، إلى بلد الياسمين الجريح ولبنان الصمود وجارة قلبها فلسطين، من مسلمين ومسيحيين!
بالأمس القريب فجأة، وعلى موعد دون ميعاد، تواردت على عجل دون إنقطاع الأنباء، وهي تحمل في طياتها ما لا يتصوره عقل أو يكون في الحسبان، في بلد تسجل فيه هذه الأيام، أعلى الإصابات نسبيا بالجائحة بين العالمين، عن إنقطاع المادة الرئيسية في غرف الإنعاش، التي من دونها خلال بضع دقائق، يتوقف العيش ومعه الحياة، حيث لاقى البعض ولا إعتراض على أمر الله الذي لم يمنعنا من الأخذ بالأسباب، حتفهم نتيجة الإهمال والتقصير حتى لا نسترسل في هذه الحلكة أكثر في التفاصيل!
وفي هذا الوقت الذي يعتصرنا الألم فيه، وقد خيم الحزن علينا جميعا، فإن الذي يعنينا ليست مظاهر الزيارات والإجتماعات وتصريحات الإستنكار وتبديل الوجوه، بالقدر الذي يهمنا فيه أن يكون من يهمه الآمر، قد استوعب الدرس واستلهم العبرة، من نفاذ صبر مواطنيه إزاء الإستهانة والإستهتار بحياتهم، وتفشي المحسوبية في تحمل المسؤولية، وحتى يقضي الله أمرا كان مكتوبا، حين يعجل في الخلاص من الهاشميين، الذين وصلت بهم الدنية بحق الشعب في حجب الأوكسجن، فإننا نتمنى على أهلنا في أردن الرباط، ضرورة التقيد بكل متطلبات الوقاية، حتى تزول الغمة بإذن القدير الواحد الأحد، وأن لا يقنطوا من رحمة الرحمن الرحيم، فلكل ظالم نهاية ولحكمة الله آية!
وإذ نضرع إلى الله العلي القدير، أن يتغمد شهداء الأردن العزيز الذين يقضون بالعشرات يوميا، بواسع رحمته وأن يسكنهم فسيح جناته، أن يلهم أرض الكرامة وشعبها العروبي المقهور على أمره، جميل الصبر والسلوان.
وفي الختام قول الحق نقول “وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالو إنا لله وإنا إليه راجعون” صدق الله العظيم
* فلسطيني واشنطن