استبق الرئيس الأوكراني قمة الإتحاد الأوروبي التي عقدت في بروكسل يومي 14 و15 ديسمبر, وزار البيت الأبيض والتقى الرئيس بايدن, في زيارةٍ استطلاعية حاول أن يستكشف من خلالها, مواقف الإدارة الأمريكية قبل إنعقاد القمة, وسط تلمسه تغييراً أمريكياً تجاه استمرار دعم بلاده مالياً وعسكرياً, ووسط انعدام ثقة الرئيس بايدن بجدوى دعم القوات الأوكرانية, واكتفاؤه بالدعم “الذي تراه واشنطن مناسباً لأطول فترة ممكنة”, وضجيج الخلافات بين أعضاء الكونغرس حول المساعدات المالية لكييف.
وعلى الرغم من إعلان الرئيس بايدن موافقته على تقديم حزمة جديدة من المساعدات العسكرية لأوكرانيا بقيمة 200 مليون دولار, إلاّ أن زيلينسكي بقي قلقاً لكون الموافقة مرهونة بموافقة الكونغرس أيضاً, في الوقت الذي قرأ فيه اختفاء الحفاوة التي حظي بها في زيارته السابقة, ولمس سخرية بايدن وهو يخفي ابتساماته بمنديله, في اللقاء الصحفي المشترك, وأثناء إجابته الصحفيين على سؤال حول إمكانيات صمود القوات الأوكرانية, وإذا كان يستطيع هزيمة روسيا دون مساعدة أمريكية إضافية”, فما كان من الضيف, إلاّ أن صمت وهز كتفيه وقلب شفتيه.
من الواضح أن شيئاً ما قد تغير بالنسبة للأمريكيين تجاه أوكرانيا, فما الذي يعنيه هذا بالنسبة للأوروبيين, وهل كان التغيّير حاضراً ومؤثراً على قمة الإتحاد الأوروبي, التي أخّر انطلاقتها لبعض الوقت , رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل, لمشاركته في مباحثات غير رسمية مع كل من شولتس وماكرون وأوربان وأورسولا فون دير لاين.
من اللافت أن تُعقد القمة في أجواء تسودها الإنقسامات والخلافات الأوروبية حول عدة قضايا, أولها ملف أوكرانيا ووضعها العسكري الميداني المأزوم, وارتباط ذلك بإقرار موافقة الإتحاد على برنامج المساعدات المالية الذي وعد من خلاله بتقديم 50 مليار يورو لدعم النفقات العسكرية, وسط تأكيد المتحدث بإسم الخارجية الأمريكية ماثيو ميللر، أن واشنطن تعتقد “بضرورة إجماع الاتحاد الأوروبي وإسراعه بإقرار الدعم المالي لأوكرانيا للعام المقبل 2024”.
بالإضافة إلى الخلافات المتعلقة بتحديد موعد بدء مفاوضات انضمام أوكرانيا ومولدافيا رسمياً إلى الإتحاد, وسط معارضة المجر من جهة, وعدم وضوح الرؤية الأوروبية تجاه موقف الولايات المتحدة من كلتا القضيتين, في الوقت الذي تطالب فيه إسبانيا وبلجيكا وإيرلندا ومالطا رئيس الإتحاد الأوروبي بموقف واضح تجاه غزة.
لم يكن خافياً قبيل بدء القمة ارتباك دولها وسط الغموض الذي يكتف الوضع الأوكراني, ومعارضة المجر ورهانها على ضرورة تغير الظروف السياسية, وبما سيقدمه الأمريكيون أنفسهم للسلطات الأوكرانية.. وهنا ما حاولت المفوضية الأوروبية تغييره عبرالإفراج – عشية القمة – عن /10/ مليار يورو من أموال الاتحاد الأوروبي للمجر، والتي بدت رشوةٍ واضحة لإقناع رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان بالعودة عن تهديده بعرقلة الملف وإصراره على إجماع ال 27 دولة في الإتحاد الأوروبي.
لكن أوربان أصر على مواقفه, على الرغم من تصويت الـ 26 دولة, واستخدم حق الفيتو, وعرقل حزمة المساعدات, وغادر القاعة قبل التصويت, مؤكداً بذلك على تحقيق بلاده أهدافها الإستراتيجية وحماية مصالحها الوطنية , وبأنها لا توافق على انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي وتعتبره “أمراً خاطئاً”, وترى أن “الإتحاد الأوروبي يريد تمويل استراتيجية فاشلة”.
في الوقت الذي تقدم فيه الرئيس ماكرون بعد إنتهاء القمة , خطوة تجاه دعم موقف أوربان الداعم أصلاً لروسيا, وأكد بأننا “بعيدون جداً عن قبول أوكرانيا, وأن إدراج دولٍ جديدة سيتطلب إصلاحاً عميقاً لقواعدنا”, ويبقى السؤال, هل غازل ماكرون المجر – أوربان , أم روسيا – بوتين ؟.
لا بد للاتحاد الأوروبي من تجديد قواعد تحركاته, والتخلص من ذهنية قادته, والعمل بعيداً عن المقاربات والمصالح الشخصية, التي تعامل بها بعض قادة الإتحاد والدول الأوروبية في الملف الأوكراني, خلال العامين الأخيرين.
لقد أوقع الأوروبيون أنفسهم في فخ السياسة الخارجية الأمريكية المتعلقة بأوكرانيا, منذ شباط /2022, وبات الصراع في أوكرانيا يبدو وكأنه شأناً أمريكياً خاصاً, يلعب فيه الأوروبيون دور مانحي المال والسلاح فقط , بعيداً عن مصالح دولهم, وبات عليهم دفع الأموال لخدمة مصالح الولايات المتحدة وشريكتها المملكة المتحدة.
إن إقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية, وارتباطها بمصير وحجم المساعدات الأمريكية لأوكرانيا, قد يشكل كارثة للرئيس زيلينسكي وفريقه الحكومي وقادة قواته المسلحة, لكنه سيشكل أيضاً فرصةً جديدة ستساعد الأوروبيين على إعادة التفاوض مع واشنطن حول أوكرانيا, في وقتٍ تستطيع فيه الولايات المتحدة اتخاذ قرار استمرارها بتقديم المساعدات المالية أو العسكرية لكييف, على عكس دول الإتحاد, العاجزة عن إتخاذ موقف وقرار مستقل ومسؤول, طالما أنها لا تمسك بدفة القيادة, ولا يمكنها الوثوق بالسياسة الأمريكية الحالية والمستقبلية حتى بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية, وقد يخرج عن القمة مواقف مؤيدة وداعمة لأوكرانيا, لكنها لن تكون حاسمة وواضحة تجاه المساعدات المالية.
يبدو أن ملفي إنضمام أوكرانيا ومولدافيا, سيبقى مصيرهما معلقاً, لحين وضوح حركة الولايات المتحدة تجاه إنهاء الحرب على روسيا, والإعتراف بهزيمة أوكرانيا والناتو, حتى لو كان من باب اللجوء إلى هدنة مؤقتة مخادعة, تفرض سكوناً وحضوراً استراتيجياً للناتو على الحدود الروسية, في إطار تفاوض كبير, يكثر فيه الشد والجذب والبازار الدولي, الذي يبدأ من أوكرانيا, ويمر عبر الشرق الأوسط وإيران واّسيا الوسطى وبحر الصين الجنوبي وصولاً إلى المحيطين الهندي والهادئ.
على الرغم من فشل القمة بإضافة شيء جديد , لكن “صقورها” لم يشعروا بالإحراج , فقد تمرسوا بالخداع, وأدخلوا -على سبيل المثال- مفاوضات انضمام تركيا إلى الإتحاد الأوروبي في نفق الشروط والإجراءات والمراحل, لقبول الإنضمام أو تعليقه أو رفضه في نهاية المطاف, وهذا سيمنحهم الوقت الكافي لتريتب العلاقات مع الولايات المتحدة وروسيا والصين واّخرين, كذلك الأمر بالنسبة لأوكرانيا , فقد قالت رئيسة المفوضية الأوروبية عقب القمة “مهما حدث من الضروري العمل على بدائل للتوصل إلى حل في حال لم نتوصل إلى اتفاق”, في الوقت الذي لم يقبل أوربان بالإفراج عن 10 مليارات فقط وطالب بكل ما تستحقه بلاده.
إن مجريات الأحداث منذ مطلع القرن الحالي حتى اليوم, لا بد وأنها أعطت الأوروبيين درساً هاماً, وباتوا يدركون أسباب فقدانهم الكثير من هيبتهم ونفوذهم حول العالم, وأسباب تراجع إقتصادياتهم, ولا بد وأنهم يدركون أيضاً أن السبيل الوحيد لعودتهم يمر عبر استعادة السلام في قارتهم في بيئة دولية متغيرة, والخروج من حالة عدم اليقين داخل بلدانهم أولاً, عبر الإنصات لصرخات من ينادون ويرفعون شعارات “أوروبا الموحدة”, لإعادة ضبط آفاق العلاقات السياسية والإقتصادية مع الولايات المتحدة وروسيا بشكل رئيسي.
لقد أدت الأخطاء التاريخية والسياسية, والعلاقات الشخصية, وطموحات بعض القادة الأوروبيين, إلى إخراج دولهم عن سياقها ودورها ومكانتها الطبيعية, ووجدوا أنفسهم في مواجهات عسكرية وإقتصادية حالية مع روسيا ومستقبلية قادمة مع غير دول, بعدما ساهموا بكسر التوازن الدولي, والنظام العالمي, الذي بات بحاجة إلى إعادة تقييم, وسط تضاعف حاجة دول العالم الماسة لإيجاد نظامٍ عالميٍ جديد متعدد القطبية, لا بد لأوروبا إلاّ وأن تكون جزءاً منه.