انعقدت القمة العربية بالرياض، بعد انقلاب وقع الترتيب له بزمن يسير، تلخّص في عودة العرب مهرعين إلى دمشق، بعد أن كان النظام السوريّ محلّ نقمتهم، فلم يتركوا صفة سوء إلّا ألصقوها به، وتحوّلت سوريا عند هؤلاء من بلد شقيق يستطاب العيش فيه، إلى ساحة حرب عبثت فيها دولهم بقرار أمريكي صهيوني، فأهلكت الحرث والنسل والحجر والمدر، بالأمس كان الدكتور بشار الأسد غير مرغوب فيه، ومنبوذ من الجامعة العربية بمبرّرات غير منطقية، واليوم نطقوا بما أخفوه من قبلُ، بألسنة مُقِرّة بأنه فخامة الرئيس السوري، قمّة زينها حضور رئيس قال لا وألف لا للتطبيع مع عدوّ صهيوني غاصب، كما سبق ذلك موقف أبيه قائد تحرير القنيطرة سنة 1973، وصاحب المواقف المشرّفة بحقّ إيران الإسلامية، عندما عُودِيت من العرب ظلما وعدوانا.
تعود القمة العربية للإنعقاد بعد توقف دام 12 سنة، انشغل فيها العرب كلّ حسب مشاركته في تنفيذ مؤامرة إسقاط النظام السوري، وتقسيم البلد إلى (كانتونات) عرقية وطائفية، لكنّه فضل الله سبحانه، باءت جميع تلك المؤامرات بالفشل الذريع بوقوف روسيا إلى جانبها، ودخول إيران وحزب الله على خط مواجهة الإرهاب التكفيري، ممثلا في داعش والنصرة وبقية الجماعات المفسدة في الأرض، بعنوان إعادة الإسلام، وإقامة دولة الخلافة.
على أيّة حال فإنّ سوريا لم تغب يوما عن محيطها، ولا أدارت ظهرها لقضايا أمّتها، والدليل على صحة وسلامة سياساتها، فقد بقيت وفيّة لقضايا أمّتها تنظر إليها بعين الجدّ، وتعالجها من زاوية المسؤولية الملقاة على عاتقها، في حماية مصالحها ومصالح أشقائها، فكانت رعاية حقوق الشعب الفلسطيني أولوية سورية لم تتغيّر رغم الصعوبات الجمّة، ومن أجل ذلك تعرّضت سوريا لمؤامرة دولية واسعة النطاق، تورطت فيها دول عربية خليجية، أنفقت مئات مليارات الدولارات من مدّخرات شعوبها، إرضاء لأمريكا ولقيطها الكيان الصهيوني، لو أنّها أنفقتها في استحقاقات تلك الشعوب، وساعدت بها الدّول التي أرهقها البنك الدّولي بشروطه المجحفة لاختلف الأمر، ولتحوّل حالها من بلدان مديونة للبنوك الغربية، مرتهنة حتى في سياساتها الداخلية والخارجية، إلى دول دخلت معترك النموّ الاقتصادي بأكثر حظوظ النجاح.
لا أعتقد أن هذه التحوّلات السياسية العربية تمّت تلقائيا، ودون مراجعة وتقييم الأحداث الخطيرة التي تعرّضت لها سوريا، ويريد أصحابها طي صفحة مشينة من سياساتهم العدوانية، ودون مؤثرات خارجية فرضت نفسها على الساحة العالمية، دليلنا على وجاهة هذا الإحتمال، قائم على دعوة الرئيس الأوكراني الصهيوني (زيلنسكي) لحضور أعمال القمّة العربية، وهو خلط عجيب يجعلنا نرجّح، أنّ هناك مؤامرة تُحاكُ لتوريط العرب مرّة أخرى، في مواقف مشبوهة ومُدانة في نفس الوقت، لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
هل يمكننا القول بعد هذا أن الذي جري اليوم، بين الدول العربية والخليجية منها على وجه الخصوص، هو تعبير عن ندم حقيقي غير مُصطنع، على ما جنوه بحق الدولة السورية والشعب السوري والأرض السورية، وأنّ على الدّول التي ساهمت بأموالها، والمغرّر بهم من شعوبها في دمار سوريا، أن تسهم بفعالية في بناء ما خرّبوه، تعبيرا عمليّا عن حسن نيّة حقيقية، في طيّ صفحة السوء التي رسمت عداوات وهميّة بينها وبين سوريا، لا مبرّر لها لو تعقّل هؤلاء.
لا شك بأن هذا التغيير جاء بتدبير صيني، بدأت ملامحه تظهر، من خلال مبادرة تقريب وجهات النظر الإيرانية السعودية، في مسعى لإعادة العلاقات بين البلدين، وقد نجحت المبادرة الصينية نظرا لصدقها، ويبدو أن التأثير الصيني في السياسة الخارجية العالمية، قد بلغ مستويات عالية، في إعادة رسم العلاقات الدولية من جديد، على العكس من أمريكا وحلفائها الغربيين، الذين يسعون دائما لتعميق الخلافات بين الدول، وإحداث نزاعات التحريض عليها، وافتعال الأزمات كما حدث في أفغانستان والعراق واليمن وسوريا ولبنان – وما يحدث بالسودان خير دليل على ذلك – ومعاداة الدّول الخارجة عن طوعها ككوبا وايران وفنزويلا وكوريا الشمالية وغيرها، وفوق ذلك كلّه، نشر القوات العسكرية بحرا وبرا لإرهاب الدّول المستضعفة، وزيادة الهيمنة على العالم.
فهل ستمحو هذه القمّة خيبات القمم السابقة، وتطوي صفحة فشل الجامعة العربية في حلّ جميع قضاياها، وتنطلق من الرياض في ثوب مبشّر جديد، يعطي الأولوية لمصالح الشعوب العربية؟ يبدو أن هذه الأماني لا تزال بعيدة عن متناول حتى أحلام شعوبنا، طالما أن دولهم لم تعبّر مرة واحدة وبصورة عملية، عن فكّ قيدها من دول الغرب، التي لا تزال تعتبرها مَغْنما، تُستجلب منه منافعها بأبخس الأثمان.
ما أرجوه من مُخرجات هذه القمّة، وما ستتمخض عنه من قرارات، أن يكون أوّلها رفع المظلمة المسلطة على سوريا، نابعا من حكومات العرب أنفسهم، وليس بتأثير خارجي حتى ولو كان صينيا، بما يعنيه عودة الوعي إلى هذه الدّول، التي كان بذلها من أجل إسقاط النظام السوري، والعبث بأمن شعبه سخيا جدّا، وقليل من الدول المنضوية في الجامعة، من نأت بأنفسها عن الإشتراك المؤامرة، ما يحملنا على جناح التفاؤل أمل بتغيّر الوضع العربي من خدمة أمريكا وحلفها المعادي للعرب والمسلمين، إلى مراعاة مصالح الشعوب العربية والإسلامية وجعلها أولوية، وليس هناك أولوية اليوم تَفرِض نفسها علينا جميعا، مثل قضية الشعب الفلسطيني المظلوم، واستحقاقه عن جدارة باستعادة كامل حقوقها في أرضه.
المعضلة التي أقضّت مضاجعنا كعرب ومسلمين هي قضية فلسطين، فهي مفتاح كل قضايانا، وسبب عرقلتها في عدم حلّها بطريق وحيد لا بديل عنه وهو المقاومة، يجعل الشكّ ينتابنا، من جميع المبادرات العربية السابقة واللاحقة، وطالما أن حكومات العرب لم تسحب مشروعها العاطل المتمثّل في حلّ الدولتين، وتراجع الدول التي بادرت بالتطبيع مع الكيان الصهيوني موقفها المخزي، تبقى دار لقمان على حالها، كما يقول المثل المُعبّر عن الوضع العربي الراهن، مركزية هذه القضية في البيان الختامي لمؤتمر جدة، لا يجب أن يخالطه مسار التطبيع مع العدوّ، ولا حتى مشروع حلّ الدولتين العاطل الذي هو بالأساس خيانة للقضية الفلسطينية، وشتّان بين مشروع الإمام الخميني رحمه الله في تحرير كامل فلسطين، وبين مشروع التسليم بحلّ الدولتين الذي تريده دول الغرب، وتحرص على دعمه
نأتي الآن إلى ما هو مؤمّل من القمّة العربية، فبرهنة الحكومات العربية – خصوصا تلك المتورطة في دمار سوريا – يتمثّل في العمل على إعمار سوريا، والوقوف إلى جانبها بكسر عقوبات قيصر المسلطة عليها، يؤكّدان على سلامة نوايا تلك الدّول في بناء علاقات صادقة، وليست مجرّد مناورة جديدة تستهدف النظام السوري، لكن بأسلوب استخباراتي خبيث، الأيام القادمة سوف تكشف النوايا الخافية، وتبيّن مواقف الدّول الحقيقية، عندما يبدأ تنفيذ مخرجات المؤتمر، وبين نجاح المؤمتمر وفشله خيط رفيع اسمه المبادرة للعمل الصالح.