كرة لهب جديدة تلقى في الملعب الإقليمي، تتمثل في قناة إسطنبول الجديدة، الحلم الشخصي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، التي فجر إعلانه عن البدء فيها المزيد من الجدل، في أجواء لم يعد فيها مكان للنوايا الحسنة، وفي الوقت الذي يزج الصراع المشتعل بين أنقرة والقاهرة، بقناة السويس المصرية، في منافسة مفتعلة مع المشروع التركي الجديد، دون أي تلاقي أو حتى تضارب في المصالح بينهما.
هناك حالة من الغموض من عدم إلقاء الضوء على المنافسة الحقيقية بين موانئ الإمارات والقناة التركية الجديدة، مع أن المشروع حال اكتماله، سيربط البحر الأسود ببحر مرمرة، وسيخلق حتما حرب تكسير عظام بين إسطنبول ودبي!
ما هو مشروع القناة.. وكيف بدأ؟
قناة إسطنبول الجديدة، من المشاريع القومية الضخمة لتركيا، ويتوقع افتتاحها عام 2023، حيث تربط بين البحر الأسود وبحر مرمرة، والمشروع تاريخيًا ليس جديدًا بل سبق طرحه في حقبة زمنية مختلفة، بداية من عصر السلطان سليمان القانوني (1520-1568)، باقتراح من المهندس معمار سنان، ولكن توقف المشروع دون أسباب متفق عليها من كتبة التاريخ، وأعيد طرحه مرة أخرى في مارس 1591 خلال عهد السلطان مراد الثالث، الذي تحمس للمشروع، وأصدر أوامره باستئناف العمل، وبعد تنفيذ الكثير من تفاصيله، جرى إيقافه من جديد.
طُرح المشروع مرة أخرى عام 1654 في عهد السلطان محمد الرابع، ولكن بقيت فكرة قيد النقاش ولسبب أو لآخر تأجلت مرة أخرى، حتى تولى السلطان مصطفى الثالث الحكم (1757-1774) الذي فتح الملف بقوة، وحاول دفعه للأمام لاستكماله، ولكن تكاليف المشروع الضخمة سرعان ما أوقفته من جديد، ليتولى السلطان محمود الثاني العرش، ويشكل لجنة لدراسة المشروع مرة أخرى، وإعداد تقرير مفصل عنه عام 1813 ولكن لم يتم اتخاذ خطوات ملموسة.
منذ عام 1920 حتى 1952، أخذ التفكير في المشروع أبعادًا أخرى، حيث اقُترح إقامة سد أمام مضيق جبل طارق، والتخفيض من سطح البحر الأبيض المتوسط بنسبة تصل إلى 200 متر ــ 660 قدم، لتوليد الطاقة الكهرومائية، وتضمنت هذه الخطة سد عبر مضيق الدردنيل لإبعاد البحر الأسود، ولم يكتب لهذه الخطة النجاح أيضًا، حتى عقدت الانتخابات المحلية عام 1994 وخلالها اقترح بولنت أجاويد زعيم حزب اليسار الديمقراطي استكمال المشروع القديم، ولكنه لم يتخذ خطوات كافية لإقناع السلطات بالعودة للعمل بالمشروع.
في عام 2009، ذروة نشاط حزب العدالة والتنمية الحاكم، أوصت الحكومة التركية بإنتاج دراسات جديدة على المشروع، في محاولة لإحيائه، وبالفعل أعلن رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ــ الرئيس الآن ــ مشروع “كنال إسطنبول” في 27 أفريل 2011 وأطلق عليه اسم “المشروع العاصف”. وفي غضون عامين انتهت دراسات المشروع، وآليات التمويل، بتكلفة تتخطى 10 مليار دولار للبناء، يتم تخصيصها من خزينة الدولة، على أن يتولى الجيش التركي الدور الرئيسي في إقامة المشروع، لما له من أهمية كبرى في مستقبل تركيا، وتم الاتفاق بالفعل على موعد تدشينه عام 2023، على أن يكون افتتاحه خلال ذكرى تأسيس الدولة التركية، وتزامنًا مع انتهاء معاهدة لوزان، التي تمنع الحكومة من تحصيل أي ضرائب على مرور السفن من مضيق البوسفور.
وبحسب ما رشح من معلومات عن المشروع حتى الآن، يبلغ طول القناة حوالي 45-50 كم، (28-31 ميل) بعمق 82 قدم، وعرض 490 قدم، وبهذه المواصفات ستتمكن القناة الوليدة من شطر الجانب الأوروبي في إسطنبول، وتشكيل جزيرة جديدة بشواطئ على البحر الأسود ــ بحر مرمرة ــ وتمتد حتى تتجاوز مضيق البوسفور، وهذه الأبعاد تعني أن المشروع يستوعب أكبر وأضخم السفن والغواصات للمرور منه، ومن المخطط أن تتّسع القناة لمرور 160 سفينة يومياً.
تحديات داخلية وخارجية.. هل يصمد المشروع؟
يواجه “حلم أردوغان” العديد من الصعوبات الداخلية والخارجية لاعتراض مساره، وتكمن الخطورة الأكبر في تعطيل المشروع، من الخصم السياسي التاريخي للعدالة والتنمية، حزب الشعب الجمهوري، الذي لا يتحفظ على الفكرة فقط ويطلب المزيد من الاستفسارات عنها، بل يعتبرها خيانة للمدينة التاريخية، بحسب تعبير أكرم أمام أوغلوا رئيس بلدية إسطنبول.
يقول أوغلو إن شق القناة، يعني خسارة ملامح إسطنبول التاريخية، ولذلك سيرفض هو وحزبه بكل الطرق الممكنة تمرير التكاليف الكبيرة لتنفيذ المشروع، وبدلًا منه، يطالب باستثمار الأموال التي ستنفق عليه في مشاريع أخرى أكثر نفعًا على حد قوله، وهي فلسفة تتعارض بشدة مع رؤى أردوغان، الذي يصر على تنفيذ حلمه، كدليل على مرونة الاقتصاد في وجه التحديات الخارجية، فضلًا عن تحفيز المواطن التركي، لمشاركة الدولة لاحقًا مشقة إنشاء مشاريع عملاقة، مثل إطلاق الصواريخ الفضائية، ومنشآت الألعاب الأولمبية والخاصة بكرة القدم، والجسر إلى شبه جزيرة القرم وغيرهم.
المثير أن العديد من الدراسات البحثية، والباحثين الروس يؤيدون مشروع أردوغان بقوة، وعلى رأسهم الباحث في أكاديمية الاقتصاد الشعبي التابعة للرئاسة الروسية، سيرغي خيستانوف، الذي يرى في قناة إسطنبول، مشروعًا واعدًا، من وجهة نظر اقتصادية، ويوضح أنه يمكن للسفن المسجلة في دول البحر الأسود فقط عبور مضيق البوسفور دون مقابل، بينما مرور البقية يمنح تركيا إيرادات كبيرة.
لكن خيستانوف، يطلق العدد من التحذيرات في الوقت نفسه، التي ربما تقضى تأجيل الفكرة من وجهة نظره، فهو مشروع ضخم وطويل الأجل ويتطلب استثمارات ضخمة، وأمام الوضع الدولي الراهن، وتورط تركيا في صراع العسكري بسوريا، وضغوط العقوبات الأمريكية المتتالية، سيكون من الصعب للغاية، إيجاد الأموال اللازمة، ولاسيما أن الصين، الشريك الاقتصادي الأقوى لتركيا، والتي يمكنها الإفلات من العقوبات الأمريكية، لا يوجد لها مصالح اقتصادية في منطقة البحر الأسود، ومن غير المرجح أن تقوم بذلك.
أما التحديات الخارجية، فتتلخص أولًا في تصاعد رفض المشروع من أمريكا ودول الجوار الأوروبي، والذين يثيرون العديد من المخاوف الجيولوجية، ما استدعى ردًا سريعًا من وزارة النقل التركية، التي نشرت بيانًا تشير إلى دراسات في تخصصات مختلفة، تشمل تحليل الزلازل والتخطيط الحضري والاقتصاد والتراث الثقافي والبيئة وإدارة المرور، أجريت في 33 قسمًا بمشاركة نحو 200 أكاديمي من عدة جامعات، بينها بوغاز إيجي، والشرق الأوسط التقنية، وإسطنبول التقنية، فضلًا عن أراء مؤيدة للمشروع من 57 مؤسسة ومنظمة معنية بتقييم الأثر البيئي، بحسب وكالة الأناضول.
أما التحدي الثاني للمشروع، فيتلخص في كيفية التصدي لإثارة نزاع جديد بالمنطقة، بعد ربط العديد من وسائل إعلام أقطاب الصراع الدائر بين محوري مصر وتركيا، بين الإعلان عن عزم أردوغان شق القناة، والرغبة في التصعيد ضد مصر، ومحاولة إلغاء دور قناة السويس في الملاحة البحرية، خاصة ان المجرى المائي الأهم في العالم، من أكبر مصادر الداخل للقاهرة.
هذه التقارير، تلقي دون شك المزيد من الحطب على النار، لإبقاء الخلافات مشتعلة بين أنقرة والقاهرة، خاصة أن الإعلام الدعائي، لا يشير غالبًا إلى الخطوات التاريخية للمشروع، ولا يوضح أن قناة إسطنبول لا تمثل أي تهديد يذكر لقناة السويس، لا على المستوى الاقتصادي ولا على المستوي الملاحي ولا حتى السياسي، بحسب العديد من التقارير البحثية، فالقناة الجديدة تربط البحر الأسود ببحر مرمرة، بينما تربط قناة السويس بين البحر المتوسط والبحر الأحمر، أي أن كل قناة منهما تخدم طريقًا مغايرًا لما تخدمه الأخرى، وبالتالي لا مجال للتنافس بينهما.
يمكن القول إن التهديد الحقيقي للقناة التركية الجديدة، حال البدء فيها فعليًا هذه المرة، سيكون من نصيب الإمارات، خاصة إذا علمنا، أن عملية نقل التجارة بين الصين وأوروبا من المحور الجنوبي إلى محور الشمال والبحر الأسود حيث تركيا، يهدد النفوذ الإماراتي على موانئ عدن وبربرة وباب المندب، ويعظم في المقابل من قدرات تركيا على المنافسة الاقتصادية والاستقطاب التجاري، خصوصًا مع الانتهاء من مشروع طريق الحرير الحديدي، وتحويل مدينة إسطنبول إلى مركز عالمي للتجارة الدولية، على حساب دبي كمركز مالي إقليمي، وهي معطيات ستزيد من حدة الصراع بين البلدين وربما تبقى عليه للأبد!
نون بوست