ما بين المرواغة والنفاق، التنصل من التعهدات والإتفاقات، البحث الدائم لإستعادة الأحلام والمطامع العثمانية .. وما بين الموقع الجغرافي والمحيط الحيوي، والأدوار الوظيفية، يجد أردوغان فرصته بممارسة لعبته المفضلة، والأرجحة ما بين أسياده الأطلسيين، وشركائه وجيرانه الطبيعيين، ومن منطقة البحر الأسود إلى المحيط الأوراسي، إلى بوابة الشرق مع العالم العربي، والبوابة الاّسيوية والشرق الأدنى، يحلم أردوغان بأن يكون “السلطان”، غير اّبهٍ بخطورة لعبته ونهاية أرجوحته.
لم يجد الرئيس التركي الوقت الكافي للحديث المستفيض عن قناة اسطنبول، في خضم المعارك السياسية والعسكرية والإرهابية التي يقودها للعدوان على دول الجوار وخصوصا ً على سورية، وسبق له أن تحدث عنها أثناء حملته الإنتخابية عام 2011، وأعرب يومها عن نيته تفعيل كل ما يتعلق بها من مبادرات سياسية وبنى تحتية وخدمات رفيعة المستوى.
ويتضمن مشروع القناة سلسلة من المشاريع الإقتصادية، وعلى رأسها إنشاء ممر مائي جديد إلى الغرب من مضيق البوسفور، والذي سيربط البحر الأسود ببحر مرمرة، بهدف خلق بديلٍ حقيقي للمضيق، على الرغم من مخالفته القوانين الدولية التي تحكم العلاقات الدولية هناك…
وتبلغ تكلفة هذا المشروع – بحسب التقديرات – ما بين 15- 20 مليار دولار، ولا تبدو تركيا حاليا ً قادرة على تنفيذه بمفردها، نظرا ً لضعف الإقتصاد التركي، ولأجواء الحروب والتوتر الدولي في المنطقة والعالم، بالإضافة لإنشغال تركيا بالحروب السياسية والعسكرية، الأمر الذي يضع أمامها عراقيل وصعوبات جمة للحصول على التمويل اللازم، ناهيك عن تراجع الإقتصاد العالمي، والظروف الإستثنائية التي تمر بها الدول الداعمة المحتملة، جراء إنتشار وباء الكورونا، والخسائر الإقتصادية التي أصابتها ..
وقد يجد الرئيس التركي نفسه أمام خيار داخلي واللجوء لميزانية الحكومة، وبالإعتماد على جذب الإستثمارات الداخلية، عبر الحملات الإعلامية وإقناع المستثمرين وإغرائهم بتأمين فرص العمل وتحسين البنى التحية والسكنية والتجارية والسياحية على طول الممر المائي الجديد.
وبالعودة إلى طبيعة أردوغان وطريقة تفكيره العثمانية النابعة من عمق إنتمائه إلى ماضي الأجداد ورغبته في إعادة إحياء “أمجاد السلطنة”، فلطالما كانت أحلامه في إقامة هذه القناة تشغل تفكيره، وهي المستمدة منذ عصر “السلطان” سليمان (1520-1568)، ومن تعاقبوا بعده على إمتداد الحقبة من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر، وصولا ً لعام 1994 وبإهتمام بولنت أجاويد ( رئيس وزراء تركيا لأربع مرات )، وعلى مدى الزمن، أعاقهم إنشغالهم بعديد الظروف وبالحروب التي خاضوها.
وقد تم الإعلان عن موعد إكتمال القناة والبدء بإستخدامها بحلول العام 2023، لكن الظروف الحالية لا تبدو مناسبة لتحقيق ذلك في الموعد المحدد، وربما سيصار إلى تأجيلها لأعوام… وبحسب وسائل الإعلام التركية، فمن المتوقع أن يتراوح طول الممر المائي 45 – 50 كم، وبعمق 25 م، وبعرض 150 م … وبما سيسمح بمرور السفن الكبيرة وناقلاتها والغواصات، وتشير التقديرات إلى إمكانية عبور 150- 160 سفينة يوميا ً بما يعادل 85000 سفينة سنويا ً.
إن تحويل مسار السفن من مضيقي الدردنيل والبوسفور نحو قناة إسطنبول، سيشكل تحديا ً جديا ً لعديد الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا ودول الناتو، ويمنح تركيا فرصة فرض شروطها الجديدة على استخدام المجاري المائية…. وحتى الوقت الحالي، لا تزال اتفاقية مونترو لعام 1936هي التي تحكم مرور السفن عبر مضيق البوسفور، وبات واضحا ً أن تركيا تخطط للسيطرة على المرور والعبور عبر قناتها بمفردها.
ومنذ توقيع إتفاقية مونترو، وجميع السفن تعبر ممرات الدردنيل والبوسفور دون تسجيل أية مشكلة تذكر، وتم تصنيف السفن البحرية العابرة في فئتين: تضم الأولى دول البحر الأسود ( روسيا، تركيا، رومانيا، بلغاريا، أوكرانيا، جورجيا )، أما الثانية فتضم وتشمل باقي دول العالم.
يمكن للسفن البحرية المرور بحرية عبر أي من المضائق طالما أنها تخطر تركيا بذلك مسبقا ً، أما عبور السفن العسكرية من دول الفثة الثانية، فيعتمد على فئتها ووزنها، ويسمح عبورها بحمولة لا تتجاوز الـ 3000 طن، وبالبقاء لمدة لا تتجاوز الـ 21 يوما ً سنويا ً.
وعليه يبدو كلام أردوغان استفزازيا ً ويستعجل الصدام مع الاّخرين، خصوصا ً عندما يتحدث عن تخفيض عدد السفن العابرة للحد الأدنى، وبما يسمح لسكان المنطقة الأتراك بممارسة الرياضات المائية، وبإقامة خطوط نقل داخلي تنقلهم من وإلى منطقة المضيق، ويعيد الحياة في إسطنبول إلى ما كانت عليه في السابق.
ويرتفع منسوب التوقعات حول لجوء أنقرة لفرض شروط جديدة على عبور السفن لقناتها، وبما يهدد إتفاقية مونترو وينسفها من أساسها، إذ لا بد لأردوغان من ممارسة “مواهبه” بالأرجحة ما بين مصالح بلاده وأسياده الأطلسيين وحلفائه وشركائه الروس، ولن يفوت فرصة ابتزاز الطرفين، واستخدام ورقة الضغط على المصالح الروسية وأسطولها في البحر الأسود، مقابل مكاسب ينتزعها من الجانب الأمريكي – الأوروبي – الأطلسي.
وحتى الاّن، لم يصدر عن واشنطن ما يوضح موقفها العلني من قناة اسطنبول، على الرغم من اهتمامها بتعزيز مواقعها في البحر الأسود، وامتعاضها من بعض بنود اتفاقية مونترو التي تعتبر السفن الأمريكية ضمن قائمة الفئة الثانية، لكنها قامت بعدة محاولات يائسة لكسب موطئ قدم في البحر الأسود، عن طريق حلفائها الغربيين في حلف وارسو، وعبر تطويق روسيا بالقواعد العسكرية للناتو، وعبر قناة اسطنبول مستقبلا ً، وقد تكون مرتاحة للدور الوظيفي للدولة التركية، وتعول على نجاحها في محاصرة موسكو.
لطالما بحثت واشنطن عن فرصة للإلتفاف على اتفاقية مونترو من خلال الإدعاء بأن البحر الأسود كان جزءا ً من “المياه الدولية”، كذلك عبر وثيقةٍ استصدرتها ما بين عامي 2018 – 2019عبر هيمنتها على الناتو الذي اعتبر فيها أن البحر الأسود منطقة “منافسة”، وأنه سيزيد عديد قواته ويرفع مدة بقائها لـ 120 يوما ً.
لا يزال الموقع الجغرافي للدولة التركية، ودورها الوظيفي، يمنحانها وأردوغانها، فرصة اللعب على الحبلين والأرجحة بينهما، ولا يبدو أن أردوغان بوارد التخلي عن هذه اللعبة … وفي إنتظار التعقل والقناعة التركية واهتمامها بتجذرها الجغرافي وبمحيطها الحيوي، ترتفع إحتمالية الفوضى والصراعات والتصعيد بكافة أشكاله، بما يسهم بإنخفاض منسوب الأمن والسلم الدوليين وبإبعاد السلام.