شكل تأسيس نظام اقتصادي عالمي بديل، يقوم على التنمية المستقلة والتحرر من التبعية الاقتصادية، مشروع الدول المتحررة حديثاً من الاستعمار في خمسينيات القرن العشرين وستينياته وسبعينياته. وقد أقر هذا المشروع رسمياً في الـ 1 من أيار/ مايو عام 1974، في الجمعية العامة للأمم المتحدة، تحت عنوان: “إعلان تأسيس نظام اقتصادي عالمي جديد”، مع برنامج عمل تنفيذي لترجمته على أرض الواقع.
كان تأسيس “نظام اقتصادي عالمي جديد” البرنامج الاقتصادي لحركة عدم الانحياز، وكان النزوع إلى تحقيقه من الديناميكيات الكاسرة للتوازنات الدولية التي أسفر عنها مؤتمر باندونغ الآسيوي-الإفريقي (1955)، كحاضنة أولى لحركة عدم الانحياز، التي أدت فيها مصر عبد الناصر دوراً كبيراً، كما هو معروف. وقد تبلور زخم “مشروع باندونغ”، كما سماه الراحل سمير أمين، في مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية UNCTAD عام 1964، حيث أعلنت دول جنوب الكرة الأرضية عن وجودها لأول مرة، ككتلة دولية وازنة، من خلال مجموعة الـ77، التي عقدت مؤتمرها الأول في الجزائر عام 1967. وكان هم تلك الحركة إقامة علاقات اقتصادية دولية أكثر عدالةً، تراعي مصالح دول الجنوب، وتزيد التعاون الاقتصادي فيما بينها، وتحقق التصنيع، وتشكل وزناً مكافئاً في مواجهة الشركات متعدية الحدود والدول الاستعمارية والمنظمات الاقتصادية الدولية.
نشوء “نظرية التبعية” على هامش حركة عدم الانحياز
الأمين العام لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، بين عامي 1964 و1969، كان العلامة الاقتصادي الأرجنتيني راوول برِبيش Raul Prebisch. وقد توقفنا عنده هنا للإشارة إلى أنه كان قد وضع أسس ما بات يُعرف لاحقاً باسم “نظرية التبعية” Dependency Theory ، التي شكلت رداً نظرياً متماسكاً على النظرية الرأسمالية التقليدية في التنمية، الكلاسيكية (كما لدى آدم سميث وديفيد ريكاردو)، والكينزية (وأبرزها نموذج هارود-دومار الرياضي الذي شاع في أربعينيات القرن العشرين). وكان الأرجنتيني برِبيش، واقتصادي ألماني آخر هو هانز سينغر Singer، قد وصلا، في الوقت ذاته تقريباً، في عام 1950، إلى طرف خيط نظرية التبعية، التي تفسر تخلف الدول النامية بطبيعة علاقاتها الاقتصادية، غير المتكافئة، مع الدول الصناعية المتقدمة، التي كانت تستعمرها سابقاً.
لم يكن برِبيش ماركسياً أو حتى اشتراكياً بالمناسبة، بل عالم اقتصاد أرجنتيني من عائلة مهاجرين ألمان، تشرّب أصول الليبرالية الاقتصادية وتبناها فترةً طويلة، قبل أن يدفعه حسه الوطني كي يكتشف بالتجربة، وكان قد استلم مناصب عديدة في حياته، منها حاكمية المصرف المركزي الأرجنتيني، بأن ذلك النهج لا يقود إلى التنمية، بل إلى الفقر والتخلف، وتعميق التطور اللامتكافئ عالمياً بين دول الشمال ودول الجنوب. لينطلق برِبيش بعدها باحثاً عن نظرية تفسر التخلف الاقتصادي، وبالتالي تفسر التنمية كنقيضٍ له، علمياً؛ أي أنه انطلق من الحاجة إلى تحقيق تنمية وطنية في بلورة نظريته البديلة الأكثر قدرة على تفسير ظاهرتي التخلف والتقدم الاقتصادي المتلازمتين كوجهي عملة واحدة.
عمل برِبيش، ابتداءً من عام 1950، من خلال المفوضية الاقتصادية لأمريكا اللاتينية التابعة للأمم المتحدة ECLA، على بلورة مشروعٍ تنمويٍ لأمريكا اللاتينية، لأنه اكتشف أيضاً، كما اكتشف جمال عبد الناصر بالتجربة من بعده عربياً، أن لا مشروع تنموياً أو استقلالياً حقيقياً في كل قطر أمريكي لاتيني بمفرده.
تطورت نظرية التبعية، منذ ذلك الوقت، في اتجاهين رئيسيين: اتجاه عام، وطني وقومي مستقل، مثّله اقتصاديو المفوضية الاقتصادية لأمريكا اللاتينية، وكانت الأمم المتحدة في ذلك الوقت قد أصبحت ساحة صراع، قبل أن تعود للخضوع للهيمنة الغربية تماماً مع عام 1990؛ واتجاه ماركسي، أعاد تأسيس نظرية التبعية استناداً إلى مقولات المنظرين الماركسيين في بداية القرن العشرين في الإمبريالية. وكان أول من شق هذا الطريق هو الاقتصادي الماركسي الأمريكي (الروسي الأصل) بول باران عام 1957، ثم الاقتصادي الماركسي الأمريكي بول سويزي، ثم الألماني-الأمريكي أندريه غوندر فرانك، ثم سمير أمين، وغيرهم.
نشوء الفكر النيوليبرالي على هامش ظاهرة العولمة
عندما شرع راوول برِبيش بتطوير نظريته في التنمية الاقتصادية، لم تكن الليبرالية المتوحشة قد نفشت ريشها المتغطرس، ولم يكن منظرو الليبرالية الجديدة قد وضعوا أسس الفكر الاقتصادي النيوكلاسيكي بعد، وكان الفكر الاقتصادي الكينزي، الذي يرى دوراً كبيراً للدولة في دوزنة الاقتصاد، هو المهيمن في الغرب. نظرية روستو W.W. Rostow مثلاً، التي أصبحت معلماً بارزاً في علم اقتصاد التنمية الغربي Development Economics، لم تنشر حتى عام 1960، تحت عنوان: “المراحل الخمس للنمو الاقتصادي: بيان غير شيوعي”، في ردٍ نيوكلاسيكي مباشرٍ على دعوات التنمية المستقلة والعلاقات الاقتصادية الدولية المتكافئة، من العنوان إلى المضمون.
أما النظرية الليبرالية الاقتصادية الجديدة أو النيوكلاسيكية الأهم، التي أصبحت مدماك وصفات صندوق النقد الدولي الانتحارية لدول الجنوب (ثم الشرق بعد عام 1990)، فهي تلك المعروفة باسم “نموذج سولو-سوان” Solow-Swan Model، وقد نُشرت عام 1956. وما تزال تلك النظرية وتعديلاتها ومشتقاتها أساس الفكر الاقتصادي النيوليبرالي، أو الليبرالي الجديد، وقد جاءت تتويجاً لتقليدٍ أرساه عالم الاقتصاد الإنكليزي ألفرد مارشال، منذ عام 1881، يفك ارتباط علم الاقتصاد بالسياسة (ليصبح علم اقتصاد فحسب، لا اقتصاد سياسي، باعتبار أن الدولة، في رأيهم، لا يجوز أن تتدخل في الاقتصاد)، ويعيد صياغته بلغةٍ رياضية صارمة.
كان رائد الردة النيوكلاسيكية عن الفكر الكينزي السائد في الغرب، هو جماعة “مدرسة تشيكاغو”، أو قسم الاقتصاد في جامعة تشيكاغو الأمريكية بالأحرى، وكان ميلتون فريدمان وجورج ستيغلر أبرز ممثلين لتلك المدرسة أو التوجه الفكري، عندما خاضت تلك المدرسة وتحالفاتها، منذ خمسينيات القرن العشرين، حرباً ضروساً ضد تدخل الدولة في الاقتصاد، وضد إدارة الاقتصاد الكلي بالسياستين المالية والنقدية، وضد الرعاية الاجتماعية، وضد مشروع التنمية المستقلة في الجنوب والشرق، ومع تفكيك صلاحيات الدولة، أي دولة، وقد طوّر رموزها نظرياتٍ ومقولاتٍ، على أسس رياضية دوماً، انتهت إلى قلب علم الاقتصاد رأساً على عقب.
مع مجئ رونالد ريغان للسلطة عام 1980، كانت أفكار مدرسة تشيكاغو قد قطعت شوطاً بعيداً في بسط سيطرتها على الأكاديميا الأمريكية وخارجها لأنها كانت تمثل فكر رأس المال المالي الدولي أولاً، ولأنها شكلت قفزة تاريخية في علم الاقتصاد الغربي ثانياً. وقد شكلت مقولاتها المرشد النظري للعولمة العابرة للحدود، وللمؤسسات الاقتصادية الدولية، ولما أطلِق عليه في نهاية ثمانينيات القرن العشرين اسم “إجماع واشنطن” Washington Consensus ، وهو تحالف صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية الذي وضع “الوصايا العشر” لليبرالية الاقتصادية الجديدة، ومنها خصخصة القطاع العام، وتحرير التجارة الخارجية، وإزالة أي عوائق أمام حركة الشركات الكبرى العابرة وغير العابرة للحدود، وتخفيف ضرائب أرباح الشركات، وزيادة ضريبة المبيعات، وتخفيض الدعم الاجتماعي، وتحرير الأسعار، إلخ…
نال اقتصاديو مدرسة تشيكاغو وحدها 13 جائزة نوبل في علم الاقتصاد حتى عام 2018. فلا حركة تاريخية كبرى من دون نظرية كبرى ترشدها، ولا عولمة من دون فكر ليبرالي جديد. لقد صاغت تلك المدرسة مقولاتها كردٍ على الكينزية أولاً، وعلى “مشروع باندونغ” للتنمية المستقلة ثانياً، وعلى الاشتراكية ثالثاً، في آنٍ واحد. وخاضت معركتها الفكرية ضد “رأسمالية الدولة” في الغرب ذاته، وضد الاشتراكية في الشرق، وضد مشاريع النهوض القومي في الجنوب، في خمسينيات القرن العشرين وستينياته وسبعينياته، عندما كانت تمثل تلك الظواهر الثلاث، بمجموعها، الطابع الرئيس لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وتجاوزت طروحاتها آدم سميث وكافة الاقتصاديين الكلاسيكيين في تقديس السوق الحرة وتشييد معبدها الفكري، وفي المغالاة في تسفيه تدخل الدولة في الاقتصاد، أي تدخل. ومع ذلك، فإنك قليلاً ما تجد ذكراً لأعدائها في أدبياتها وأبحاث مفكريها العلمية، لأنها تقدم نفسها علماً محضاً لدراسة قوانين حركة الاقتصاد يحدث أنه فند خصومه في طريقه “عرضياً”، كجزءٍ من حقائق الحياة البديهية. كل ما تجده أمامك هو نماذج رياضية، ثم المزيد من النماذج الرياضية الأكثر تعقيداً، ربما تتبعها أو لا تتبعها وصفات سياسة اقتصادية نيوليبرالية.
علم الاقتصاد الغربي ما بين الوظيفة الأيديولوجية والمنهج الرياضي الصرف
أسهم تحويل علم الاقتصاد إلى علمٍ رياضيٍ صرفٍ في تطوير أدواته التحليلية بصورةٍ ما. لكنّ ذلك خلَقَ أيضاً شريحة “كهنة” اقتصاديين، تماماً كسدنة معابد بابل ومصر القديمة، ممن أدوا وظيفة علمية وأيديولوجية مزدوجة. وقد بالغ هؤلاء في العمل على تطوير النظرية من أجل النظرية، حتى راحوا يسبحون في عوالم غامضة تستعصي طلاسمها على معظم المتأثرين مباشرةً بوصفاتهم الاقتصادية، المنحازة في المحصلة إلى الشركات الكبرى متعدية الحدود ورأس المال المالي الدولي. غير أن مثل ذلك الغموض كان هو المطلوب بالضبط في عصرنا لحظر الحوار الاقتصادي خارج أطر ضيقة جداً، تكنوقراطية، مما يساعد على فرض سياسات ورؤى ليبرالية متوحشة على الأمم والشعوب بـ”قوة العلم”، كجراحٍ يقرر لوحده نوعية الأدوات التي يستخدمها لإجراء عملية جراحية على المريض، من دون أن يحتاج لمناقشة ذلك معه أو مع أهله، لأنهم “لن يفهموا” ما يتحدث عنه أصلاً.
وما برح هؤلاء الكهنة يتعاملون مع طرح القضايا الاقتصادية للنقاش العام باعتباره “صراعاً مع الجهل”، حتى بعد أن أظهرت عقودٌ من تطبيق وصفاتهم وسياساتهم أنها ليست عاجزة عن تحقيق التنمية فحسب، بل أنها تقود الاقتصادات الغربية ذاتها (وغير الغربية) إلى التأزم، من الأزمة المالية الدولية عام 2008، إلى تقهقر مواقع الاقتصادات الغربية في الميزان العالمي نحو حالة شبه توازن مع نماذج تعتمد الاقتصاد المختلط، كالصين وروسيا، وهو ما يكذّب عملياً فكرة تفوق السوق الحرة الصرف، غير المقيدة، مع التذكير بأن بعض أكبر الشركات والبنوك في كلٍ من روسيا والصين تملكها الدولة. وهو ما يسبب حرجاً كبيراً لسدنة المعبد النيوليبرالي، علمياً، فضلاً عن كونه مشكلة للغرب من زاوية ميزان القوى العالمي، سياسياً.
ثمة مشكلة نظرية هنا طبعاً تتعلق أولاً بنزعة العلم من أجل العلم، من دون ربطه بالتطبيق (انظر مثلاً فيديوهات د. هشام غصيب على الإنترنت عن ظاهرة موازية هي جنوج علم الفيزياء رياضياً بصورةٍ باتت تبدو منفصلة عن أي تطبيق فيزيائي، مع العلم أن علم الاقتصاد الغربي تمت نمذجته ابتداءً على قياس فيزياء نيوتن). حتى أن بعض النماذج الاقتصادية النيوكلاسيكية راحت تجنح بعيداً عن الإحصاءات والاختبارات التجريبية empirical testing.
وثمة مشكلة أخرى ثانياً تتعلق باستخدام العلم كقناع أيديولوجي لمصالح رأس المال المالي الدولي، وهو ما عراه عددٌ من علماء الاقتصاد اليساريين في الغرب. ويبرز هنا اسم الاقتصادي الماركسي البريطاني موريس دوب Dobb (توفي عام 1976)، وكان المشرف على أمارتايا سِن، المرشد النظري لمقولة التنمية البشرية Human development. كما يبرز اسم الاقتصاديين الكينزيين، أو ما بعد الكينزيين، البريطانية جوان روبنسون والإيطالي بييرو صرافا Sraffa، بين الذين عملوا جدياً على بلورة نقدٍ منهجي متماسك للفكر الاقتصادي النيوليبرالي.
لكنّ المشكلة، التي تعنينا بشكلٍ مباشرٍ هنا، أكثر من غيرها، هي أننا نواجه فكرياً عدواً لا يلعب، وأن تطوير نظام اقتصادي عالمي بديل ما برح يفتقر إلى نقدٍ منهجيٍ متماسك لمدخلات ومخرجات أدوات التحليل الاقتصادي النيوكلاسيكي، من وجهة نظر جنوبي الكرة الأرضية وشرقيها تحديداً، إذ أن معظم النقد المنهجي (البعيد عن الاكتمال) لتلك الأدوات ما برح نتاج مبادرات وجهود مفكرين وعلماء اقتصاد يساريين في الغرب ذاته، تظل مهمشة أو على الهامش، ولما تتمكنْ بعد من إحداث ما سماه توماس كووِن Kuhn، “نقلة نوعية” في علم الاقتصاد، أو a paradigm shift، لا سيما في العالم الأنكلوساكسوني، حيث توجد مصانع النظريات الاقتصادية النيوليبرالية.
إن أولئك النقاد الغربيين قد يمثلون نقطة بداية في بعض الجوانب، إلا أن ما نحتاجه اليوم هو علم اقتصاد بديل نابع من ظروف الواقع الاقتصادي في جنوبي الكرة الأرضية وشرقيها، تماماً كما كانت نظرية التبعية، في شقيها، تعبيراً عن منظور جنوبي للعلاقات الاقتصادية الدولية قدم إسهاماً علمياً ودفاعاً أيديولوجياً عن مصالح دول الجنوب في آنٍ واحدٍ، إذ لا علم محايدٌ عن مصالح من يستخدمه، ولا تستطيع الأيديولوجيا وحدها أن تتخذ طابعاً “عالمياً تاريخياً”، وفق تعبير هيغل عن الوعي، من دون أدوات تحليل علمي لقراءة العالم، تخترق بها الحصون الفكرية لخصومها، وإلا تحولت إلى إنشاءٍ أجوفَ (للمزيد حول العلاقة بين الوظيفة العلمية، المعرفية، للأيديولوجيا، ووظيفتها التعبوية، الرجاء الذهاب للعدد 77 من مجلة “طلقة تنوير” تحت عنوان “الوظيفة الجغرافية-السياسية للأيديولوجيا”).
لا نظام اقتصادي عالمي بديل من دون نظرية اقتصادية بديلة
إن كل مشروع صاعد في زماننا بحاجة إلى أيديولوجيا تواكبه، كما الروح للجسد. وبما أن الحصن الفكري المنيع لرأس المال المالي الدولي هو المذهب الاقتصادي النيوكلاسيكي، فإن السؤال الملح يبقى: أين تفكيكه، وأين نقده النظري الشامل الذي تستطيع أن تتبناه القوى الصاعدة؟ فثمة تقصير فكري هنا. ومن يظن أن نقد كارل ماركس للنظرية الاقتصادية الرأسمالية الكلاسيكية في القرن التاسع عشر يكفي، فقد تجاوزه الزمن الذي لا ينتظر أحداً. وهذا لا يقلل من أهمية إسهامات ماركس في علم الاقتصاد طبعاً، ومن ضرورة الاستفادة منها ومن إسهامات الاقتصاديين الغربيين، في تطوير الأدوات التحليلية لعلم الاقتصاد، لكل من يجتهد في وضع تفنيد منهجي لعلم الاقتصاد النيوكلاسيكي. وهي المهمة التي تبقى استحقاقاً تاريخياً على دعاة تأسيس النظام العالمي البديل، دولاً وحركاتٍ ومفكرين. لكنها مهمة ما نزال بعيدين عن إنجازها.
الواقع هو أن مشروع تأسيس عالم متعدد الأقطاب، ومنظومة اقتصادية عالمية جديدة، ما برح يفتقد أساساً نظرياً في مجال علم الاقتصاد، رغم وجود منظرين له في مجال الجغرافيا السياسية (ألكسندر دوغين أنموذجاً)، إنما أيضاً ليس بما يكفي لتحوله إلى دعوة عالمية. أما الفكر الاقتصادي النيوكلاسيكي فما برح يسرح ويمرح حتى في قلاع ما يفترض أنه قاعدة النظام الاقتصادي العالمي البديل، من روسيا إلى الصين إلى غيرها، لأن نقاده لا يملكون طرحاً منهجياً شاملاً يقدمونه حتى الآن سوى بعض أمثلةٍ على فشله في التطبيق، وهي حصيلةٌ متواضعة نظرياً، لأن تفسير الأزمات خاضعٌ للتأويل، ومنها التأويل النيوليبرالي. كما أنها ثغرةً فكريةً كبيرةً لن يتوانى رأس المال المالي الدولي عن النفاذ منها، لأنها تمكنه من أن ينسل من عبرها إلى حواضن صديقة: عقول المتأثرين بالفكر النيوليبرالي.
لقد قضى “مشروع باندونغ” تحت قدمي الرأسمالية المعولمة، وانهارت مؤسسة حلف وارسو في أوروبا الشرقية، وتحول مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية UNCTAD إلى واجهة بيروقرطية، وفرَضَ رأس المال المالي الدولي أجندته عبر منظمة التجارة العالمية وسائر المؤسسات الاقتصادية الدولية. كذلك خرجت نظرية التبعية بشقيها من حيز التداول العام، وانحسرت الفكرة الاشتراكية في هوامش ضيقة عالمياً، وبات المدافعون عن مشاريع الاستقلال والتنمية القومية في مواقع دفاعية، ولم يبقَ في ميدان الفكر الاقتصادي، للأسف، إلا دعاة الانفتاح والعولمة ومن يعدون استقطاب استثمارات الشركات متعدية الحدود وتحرير التجارة والخصخصة نصراً مبيناً.
أما إذا نظرنا إلى نموذج مجموعة الـ77 في الأمم المتحدة، والذي شكل رافعة لفكرة النظام الاقتصادي العالمي الجديد يوماً ما، فسنجد أن يوغوسلافيا تيتو، التي كانت أحد أهم مؤسسيها، تفككت، ولم تعد عضواً فيها. وكلٌ من مالطا وقبرص ورومانيا انسحبت منها بعد انضمامها للاتحاد الأوروبي. وكل من كوريا الجنوبية والمكسيك انسحبت منها بعد انضمامها لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، التي تدور في فلك الغرب. والصين ذاتها، كأحد أهم مؤسسي حركة عدم الانحياز، لم تعدْ تعدّ نفسها جزءاً منها، ولذلك تصدر البيانات أحياناً باسم مجموعة الـ77 + الصين، مع أن مجموعة الـ77 تصر على إبقاء الصين في قائمة أعضائها. أما المجموعة ككل، حتى مع عشرات الدول التي انضمت إليها بعد تأسيسها، لتصبح مجموعة الـ 134 دولة عام 2021، فإننا لا نجدها تصطف معاً، ككتلة غير منحازة، في مواجهة الهيمنة الغربية، حتى للامتناع عن التصويت (قرارات إدانة روسيا مؤخراً في الجمعية العامة للأمم المتحدة أنموذجاً).
في المقابل، ازدهر أملٌ كبيرٌ بعد صعود اقتصادات البريكس، وتمكنِها من خلخلة ميزان القوى الاقتصادي والسياسي العالمي، في أن تنشأ منظومة اقتصادية عالمية بديلة أكثر عدالةً وأكثر ملائمةً لتنمية دول الجنوب والشرق، وتحررها من منظومة الهيمنة الغربية. وجاءت مناسبة العقوبات الغربية على روسيا، سادس أكبر اقتصاد في العالم من حيث معادل القوة الشرائية عام 2021، وشعور الصين بأنها مستهدفة تالياً، لكي تعزز الأمل بإمكانية نشوء منظومة اقتصادية عالمية بديلة. لكن الصين وروسيا، اللتين قدمتا عملياً نموذجين لاقتصادين متمحورين قومياً ومشتبكين عالمياً، وغير مستباحين من قبل رأس المال المالي الدولي، على الرغم من عدم إغلاق بوابات اقتصاديهما في وجهه، لم تقدما نموذجهما نظرياً كنقطة استقطاب أيديولوجية جذابة لأمم الأرض وشعوبها، ومناهضة للفكر الاقتصادي النيوليبرالي، كما فعل الاتحاد السوفييتي السابق مثلاً مع الفكرة الاشتراكية، أو حركة عدم الانحياز مع فكرة التحرر والنهوض القوميين في سياق تضامن أممي حقيقي.
ثمة مشروعٌ أوراسي، ومشروع حزام وطريق، نعم، لكنهما مشروعان اقتصاديان وسياسيان، فأين قرينهما النظري؟ حتى أن روسيا والصين لا تروجان لفكرة نظام اقتصادي عالمي بديل، ولا تصرحان أنهما تتبعان نظاماً اقتصادياً بديلاً. والإعلام الروسي لم يبدأ بالحديث عن نشوء نظام اقتصادي عالمي بديل إلا بعد فرض العقوبات الغربية عليه، أي في سياق رد فعل إعلامي، لا في سياقين فكري ونظري.
أما الغرب فلديه مشروعٌ أيديولوجيٌ واضحٌ يخترق به شعوب الأرض: الليبرالية وتلويناتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفلسفية. وهو يُحدِث فينا اختراقاتٍ وثوراتٍ مضادةً، بأجزاءٍ من رأينا العام، شئنا أم أبينا، فأين ردنا المتماسك، فكرياً وعلمياً؟ وأين تفنيدنا لطروحاته فكرياً؟ وأين برنامجنا السياسي البديل؟ ومن يظن أن الإنجاز الاقتصادي وحده يكفي، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بالكلمة والفكر، وبالنظرية المؤصلة علمياً في زماننا. وليس الضعف عندنا في الجانب الإعلامي وحده، وهو لما يزلْ أقل من ندٍ للإمبراطورية الإعلامية الغربية، بل في الجانب الفكري الذي تضعنا فيه الليبرالية في مواضع دفاعية حتى الآن، من الفيلم الهوليوودي إلى البحث الأكاديمي المحكم.
حتى النقد الصادر اليوم في الغرب للسياسات الاقتصادية النيوكلاسيكية يركز على آثارها في الإفقار وتعزيز اللامساواة الطبقية، وربما تدمير البيئة أو تسليع الإنسان. وبعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، عادت المحاولات الترقيعية في الفكر الاقتصادي الرأسمالي للازدهار، من الاقتصاد البيئوي إلى الاقتصاد ما بعد الكينزي Post-Keynesianism، وهناك من عاد لقراءة “رأس المال” لكارل ماركس. لكن الرد النظري على مقولات النيوليبرالية الاقتصادية المعاصرة، والبرنامج السياسي البديل، لم يظهرا بعد.
وللأمانة، لا بد من ذكر علامة فارقة هنا، هي كتاب “رأس المال في القرن الواحد والعشرين”، الصادر عام 2013، للاقتصادي الاشتراكي الفرنسي توماس بيكتي Thomas Piketty. وهو كتابٌ يمكن اعتباره، في صورةٍ معينة، عودةً وتطويراً لنظرية التبعية، إذ بينما انطلقت الأخيرة من التبادل اللامتكافئ بين دول الشمال والجنوب في المجال التجاري، انطلق بيكتي من رأس المال، ومن أن معدل نمو رأس المال في الدول المتقدمة أعلى من معدل النمو الاقتصادي العالمي، ليظهر أن تركز الثروة عالمياً يزداد استقطاباً ولا يتساقط تلقائياً إلى الجنوب، وأن الفارق في تراكم الثروة بين الشمال والجنوب، وضمن البلد الواحد، يزداد مع الزمن، وقد استخدم بيكتي أدوات تحليلية إحصائية مكثفة في أبحاثه empirical approach an، على نحوٍ يضارع منهجيات الاقتصاديين النيوكلاسيكيين.
لكن مساهمة بيكتي تبقى علامة فارقة فحسب. لأن المطلوب تاريخياً أكبر كثيراً. فما هو الشكل الاقتصادي للنظام العالمي البديل؟ وما هي العلاقة فيه بين القطاعين العام والخاص؟ وما هي الآليات التي تجعله أكثر عدالة من المنظومة الليبرالية؟ ولماذا يضمن فرصاً تنموية أكبر لدول الجنوب والشرق؟ وهل هو محصن من الأزمات؟ بالإضافة إلى عشرات الأسئلة الأخرى التي لما تجد من يتصدى لها حتى تصبح الدعوة لنظام اقتصادي عالمي بديل برنامج عملٍ أممي، لا شعاراً يردده بعضنا فحسب.
المصدر: الميادين نت