إن الهوان العربي ظاهر للعيان ظهور الشمس في رابعة النهار، في تصرفاته نظمه السياسية المختلفة والمتنوعة، وآخر ما جادت به هذه الأنظمة الممسوخة، إرسال بعثة طبية إغاثية، ليُكتشف أنها بعثة أمنية للجوسسة على المجاهدين بغزة، واستقبال فنّانين لإحياء الحفلات الغنائية في عز الحرب على غزة، وما تبعها من جرائم إبادة تمارسها الصهيونية في فلسطين، وفي التعبير عن المواقف المتخاذلة، التي ليست جديدة هي الأخرى.
ويظهر الهوانُ العربي أيضا في استشراء الإشاعات بين الشعوب، كالنار في الهشيم، بسبب الهوة التي بين الأنظمة وشعوبها المغبونة التي تتجرع تلك المواقف الدولية المخزية بمرراة، وفي تعامل هذه الأنظمة مع الشعوب في المستويين المحلي والوطني.
لقد ظهرت تلك المواقف في صور كثيرة معبّرة عن الهوان بأسوإ صوره وبشاعتها، سواء بعمليات التطبيع وإقامة الشراكات والعلاقات الإقتصادية والثقافية والفنية، أو في غيرها من صور التسوية المهينة، وذلك منذ الزيارة المشؤومة للرئيس السادات للقدس في سنة 1978، ثم بالعلاقات تحت الطاولة التي كانت تقيمها بعض الشخصيات الخليجية، ثم باتفاقيات “السلام” التي عمت جل الأنظمة العربية، ابتداء من أوسلو وما ترتَّب عنها وتبعها من جرِّ القطعان إلى المسلخ، الذي عبَّر عنه ناتنياهو في استيلاء الصهاينة على المنطقة بفضل جهودهم الدبلوماسية التي ركّعت الجميع عندما عرض على العالم مقارنة خريطة فلسطين سنة 1948 بخريطتها سنة 2023، التي تُظهر بسط النفوذ الصهيوني على جلّ بقاعها…
ولكن بفضل طوفان الأقصى اندثر ذلك الإعلان ولم يبق بالصورة التي كانت يومها؛ بل إن الصهاينة اليوم يتدالون فكرة “زوال اسرائيل”، وذلك بالشعور الذي هيمن على الساحة السياسية في الوسط الصهيوني والعلاقات الدولية مع الكيان، بأن هناك اختلالات وقعت في المنطقة غير معهودة، بفضل طوفان الأقصى الذي هز كيان المنطقة.
وعندما انطلقت معركة طوفان الأقصى، تابعنا الكثير من التصريحات من قيادات المقاومة، من أن هناك أنظمة عربية تعمل على القضاء على حركة حماس وغيرها من حركات المقامة، وتصريحات أخرى ربما لا تملك من الشجاعة التي تؤهِّلها لتعبِّر عما في نفسها، تصبُّ في نفس الاتجاه الذي يهدف إلى استرجاع غزة، للسلطة الفلسطينية وبيت الطاعة الصهيوني؛ بل إن هناك تسريبات من دواليب السلطة تقول “إننا غير معنيين بما يجري في غزة”، وربما كانت النية انتظار ما تسفر عنه المعركة لإنهاء المقاومة والقضاء عليها.
ولكن الأحداث فرضت منطقا آخر يقول فيه ناتنياهو للجميع بمن في ذلك الذين يمدّون له يد العون بالتنسيق الأمني والتعاون الدبلوماسي، أنه لا يريد “فتحستان وحمسستان” في غزة، فقد سقطت كل الأقنعة التي يتستّر خلفها الهوان العربي، وانتهى الموقف الفلسطيني إلى نهاية كل شيء؛ بل توالت بعض الصريحات الوطنية داعمة أو قل غير معارضة للمقاومة، بل ومعلنة في بعضها عن نهاية أوسلو ومفاوضاات السلام، ومن هنا الدعوة إلى ضرورة العودة لما قبل أوسلو 1993، أي إلى المربع الأول للقضية الفسطينية، وهي أن هناك احتلالا لا بد من تصفيته، وعودة الصهاينة المقيمين في فلسطين إلى موطنهم الأصلي الذي جاءوا منه، وعودة الفلسطينيين الموجودين في الشتات إلى بلادهم التي هُجِّروا منها، وقد أعلن أحد قيادات المقاومة الفلسطينية، بعد اغتيال الشيخ المجاهد صالح العروري في لبنان، أن زوال إسرائيل بات قاب قوسين أو أدنى بقوله “ابشروا بسنة 2024 بلا إسرائيل”.
رغم أن كل المؤشرات في العالم تتحدث عن جديد في المعركة لم يسبق له مثيل، بما في ذلك التصريحات الأمريكية والأوروبية والصهيونية، لا يوجد من داخل مؤسسات الهوان العربي ما يبشّر بتغيُّر المواقف المخزية التي تبنّتها تلك المحاضن عقودا طويلة؛ بل العكس ما زالت تلك الأوساط تنتظر ما يشفي غليلها في خصومها من رجال المقاومة وأبناء الحركة الوطنية الخلّص في العالم، ويمكّنها أكثر من الانتقام من شعوبها المغبونة المتمردة على واقع الهزيمة الذي تتمتع به تلك الأنظمة المتخاذلة.
ورغم أن كل المؤشرات في العالم تتحدث عن جديد في المعركة لم يسبق له مثيل، بما في ذلك التصريحات الأمريكية والأوروبية والصهيونية، لا يوجد من داخل مؤسسات الهوان العربي ما يبشّر بتغيُّر المواقف المخزية التي تبنّتها تلك المحاضن عقودا طويلة؛ بل العكس ما زالت تلك الأوساط تنتظر ما يشفي غليلها في خصومها من رجال المقاومة وأبناء الحركة الوطنية الخلّص في العالم، ويمكّنها أكثر من الانتقام من شعوبها المغبونة المتمردة على واقع الهزيمة الذي تتمتع به تلك الأنظمة المتخاذلة.
نشر أحد الأكاديميين العرب من الخليج –أظنه من سلطنة عمان- فيديو يتحدث فيه عن سبب الموقف الياباني الداعم للصهاينة في حربهم على غزة، إذ كان موقفا غير معتاد.
يقول الأستاذ الأكاديمي إن علاقته باليابانيين من الأكاديميين وغيرهم من الرسميين، علاقة وطيدة، وموقفهم من القضايا العربية والإسلامية دائما جيدٌ وفي أسوإ الأحوال يكون محايدا، ولكن هذه المرة صوّتوا لصالح الصهاينة في مجلس الأمن! يقول فتعجبت لهذا الموقف المغاير للمعهود، فاتصلتُ ببعض من أعرف من الأصدقاء وأبلغتهم استغرابي، فقيل لي إن اليابانيين كانوا في البداية متحفِّظين لا موقف لهم؛ لأنهم فضلوا الترقب لما ستؤول إليه الأمور، ولكنهم فوجئوا بموافق عربية داعمة للصهاينة، ومن بين هذه الجهات العربية الداعمة بعض الأنظمة التي لهم مصالح معها، فاصطفُّوا ودعموا حلفاءهم من الأنظمة العربية!
ولكن لحسن حظ اليابانيين والمقاومة في غزة، أن الشعب الياباني رفض الموقف الرسمي فاحتجّ على حكامه لتعود الأمور إلى نصابها.
لقد بلغ الهوان العربي إلى درجة أنه لم يكتف بالانبطاح والاستسلام بمواقفه المخزية، وإنما تجاوزها إلى إملائها على غيره من الأنظمة المحترمة، والضغط عليها بطرق مباشرة وغير مباشرة.
لا شك أن مستوى التردي الذي تمرّ به هذه الأنظمة، لا يؤهلها لأن تضغط على الأنظمة المحترمة، مثل اليابان وغيرها، ولكنها تشوش عليها بما لها من مصالح معها فتستغلها فيما يدعم مواقفها الدولية.
واليابان رغم أنها “دولة إمبراطورية” وتوجّهها غربيٌّ محض، ومصالحها مرتبطة ارتباطا وثيقا بمصالح القوى العظمى، إلا أنها على العموم من الدول الأقل سوءا في مواقفها من قضايانا العربية والإسلامية، ولكن بسبب المواقف العربية المخزية، ها هي اليابان معرّضة إلى أن تنحاز إلى الاصطفاف الصهيو- أمريكي في قضيتنا المركزية، قضية العرب والمسلمين، التي هي القضية الفلسطينية.
إن الموقف العربي الداعم للصهاينة اليوم، في وضع لا يُحسد عليه، ولن يبق هكذا؛ بل هو معرَّضٌ للتراجع حتما، خوفا من تعميم الصراع في المنطقة وخروجه من الداخل الفلسطيني إلى خارجه: إلى لبنان، وإلى العراق، وسوريا واليمن، فهذه هي المناطق الساخنة اليوم، وهناك مناطق أخرى قد تتسلل إليها العدوى: مصر –سيناء-، الأردن، وفي الداخل الفلسطيني، قد يعمَّم العنف إلى القدس أيضا وغيرها من الأراضي المحتلة.
ومن جانب آخر، وهو التحولات التي يشهدها العالم اليوم والتي ستسفر عن علاقات دولية جديدة قد يكون الكثير منها مغايرا للمعهود، ومن ذلك المواقف الدولية الأولية التي تسجلها الدول بين الحين والآخر، مثل المواقف المتردِّدة والمتغيرة مما يجري في غزة، والمواقف الواضحة مثل الموقف الإسباني، والموقف الجنوب إفريقي، في رفع الدعوى القضائية ضد دولة الصهاينة، والدائرة الداعمة لهذا الاتجاه تتسع يوما بعد يوم، إلى أن عمَّت الشعوب التي بدأت تتحرك في اتجاه المطالبة بتوقيف الحرب على غزة، وإدانة الصهاينة بجرائم الحرب والإبادة، ومن ذلك المبادرة الحقوقية التي يقف وراءها أكثر من ثلاثمائة محامي من فرنسا وحدها، والدول العربية المتخاذلة سوف لن تبقى على الموقف ذاته، وفي أسوإ الأحوال ربما ستتريث أو تغير مواقفها، لا سيما إذا كانت هذه الأنظمة تتعرض للضغط الشعبي المتواصل، مثل الأردن والمغرب.
وثبات المقاومة والفشل الصهيوني كل ذلك يصب في مجرى اندثار الموقف العربي المتخاذل، الذي سوف يحجم بعد أن كان يتسع شيئا فشيئا إلى أن شمل المنطقة كلها.