اعتماد السياسة الغربية والأمريكية تحديدًا على توظيف بعض التفاسير أو حالة الهوس عمومًا لدى بعض المجموعات المتعصّبة أو استغلالها للحالة الدينية لخدمة مسارات تصب في صالحها، قضية ليست جديدة في تاريخ الولايات المتحدة الحديث، والدور الذي تلعبه التنظيمات “السلفية الجهادية” اليوم كعصابات كونترا في خدمة مشروع واسع للتخريب والهدم والتفتيت والقضاء على أفكار التعايش والنهضة، هو دور حشرت “السي آي إيه” كثيرين للقيام به طوال العقود الماضية.
تقول الوقائع التاريخية أن وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس (26 يناير 1953 – 22 أبريل 1959)، لم يكتفِ بمحاولة توظيف “الإسلام السياسي” لمجابهة الاتحاد السوفيتي، ومناطحة الصعود الاشتراكي عامة، ولضمان بقاء المنطقة العربية و”الشرق أوسطية” في الفلك الأمريكي، عبر تأسيس حلف بغداد، الذي رفضه وناضل ضده جمال عبد الناصر، ووجهت له الثورة العراقية في يوليو 1958 الضربة القاضية، بل دعم أيضًا ظهور مجلس الكنائس العالمي، لذات الغرض الاستعماري، وقد لعب هذا المجلس دورًا في التحريض ضد الأنظمة الثورية العربية.
وعن هذه القضية يقول محمد حسنين هيكل في كتابه “كلام في السياسة – عام من الأزمات “:
((كان “جون فوستر دالاس” وزير خارجية “ايزنهاور” قد وضع سياستين متوازيتين اعتقد أنه لا تعارض بينهما، وآمن أن كل سياسة منهما قادرة في مجالها:
السياسة الأولى: هي إنشاء حلف إسلامي يضم كل الدول التي تعتنق الإسلام (وتحارب الإلحاد) في حلف عسكري تقوده الولايات المتحدة.
وقد سمعت بنفسي – الكلام لهيكل- في واشنطن أواخر سنة ١٩٥٢ شرحا مُفصّلا للفكرة قدمه لي الجنرال «أولمستيد» رئيس برامج المساعدات الخارجية في وزارة الدفاع – البنتاجون، والخلاصة فيه أن الولايات المتحدة ترى ثلاث دول محورية يلزم أن يرتكز عليها هذا الحلف لتكتمل له فاعليته: – باكستان وهي بالتعداد أكبر بُعد إسلامي (وقتها) – تركيا، وهي بالسلاح أقوى بلد إسلامي (وقتها أيضًا) – مصر، وهي بالأزهر أهم مرجعية إسلامية (وقتها كذلك).
وكانت السياسة الثانية – وقد تبناها “جون فوستر دالاس” بنفسه وعمله وتواجده المباشر: هي إنشاء ما سمي باسم مجلس الكنائس العالمي، وكان الغرض من إنشائه جمع كل الكنائس من المذاهب المسيحية المختلفة في تنظيم واحد ينهض هو الآخر بدوره في وضع القيم المسيحية في مواجهة الدعاوى الماركسية، وكان أكثر الخوف ذاك الوقت على جنوب أوروبا، خصوصا فرنسا وإيطاليا واليونان، ففي هذه البلدان جميعا بدا التحدي الشيوعي غالبًا، وبدا أن الديقراطية نفسها قد تصبح وسيلته إلى بلوغ السلطة، ولم يعد خط دفاع قادر غير الدين – مع وجود خط دفاع خفي هو وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ونعرف أنها “دفعت و”زورت” و”قتلت” لكي تمنع اليسار من الوصول إلى مواضع القرار في باريس وروما وأثينا و(غيرها) )).
ويوضح هيكل، فيما بعد، أن هذا المجلس حاول اختراق الكنيسة القبطية المصرية، إلا أنه لم ينجح في المهمة لأنها تمسكت باستقلالها، لكن هذا لم يمنعه من التمدد عبر بعض الصحفيين، لمناهضة الوحدة المصرية السورية، والتوجه المصري نحو تعزيز العمق العربي، وروجت جريدتهم لهذا الخط الانعزالي وسوّقت لشعارات قطرية، كما أسس المجلس تعاونًا مع بعض أبناء الأسر المسيحية الذين تم تطبيق الإجراءات الاشتراكية بحقهم شأنهم شان أبناء الأسر المسلمة، أو طالتهم تلك الإجراءات باعتبارات الأمن.
وعن ذات القضية يقول مراد وهبة في مقاله بالأهرام بتاريخ 8 أكتوبر 2013:
((.. استنادا إلي أفكار دالاس هذه قدم جون روكفلر منحة إلي مجلس الكنائس العالمي في عام 1955 أو بالأدق إلي بول أبرخت رئيس قسم الدراسات بالمجلس لكي يسافر ومن معه إلي دول في العالم الثالث لكي يحث الكنائس علي مواجهة الوطن والدولة بدعوى أنها تحت سلطان الله, وإذا لم تستجب فعليها الدخول في صراع مع الدولة لكي تحذرها من الاستجابة لدعوتين: التصنيع والقومية باعتبارهما معاديين للإيمان.
وقد نشر بول أبرخت هذه الأفكار في كتاب عنوانه “الكنائس والتغير الاجتماعي السريع” (1961).
وفي نفس ذلك العام تم إنشاء المركز الإسلامي برئاسة سعيد رمضان, ويقع بجوار مجلس الكنائس العالمي بجنيف. وحاكمية الله هي الفكرة المحورية لدي المجلس والمركز, بل هي الفكرة المحورية التي أفضت إلي إفراز تيار أصولي من أجل القضاء علي الشيوعية.
وقد كان, إذ في يناير1979 أصدر رئيس أمريكا الأصولي جيمي كارتر قرارا بتدعيم الأصولية الاسلامية بأفغانستان في نضالها ضد الاتحاد السوفييتي…..)).
كما يضيف وهبة، المعروف بكونه ليس ناصريًا، ويشير لأخطاء بالمرحلة، بحوار صحفي في أكتوبر/تشرين 2016:
(( عندما قرأت كتاب «الكنائس والتغير الاجتماعى السريع» الصادر عن مجلس الكنائس العالمى وجدت فيه تحريضا واضحا للأقباط للثورة على عبدالناصر بزعم أنه يضطهدهم، وأن الدعوة إلى القومية والتصنيع تؤدى إلى الكفر، ومجلس الكنائس العالمى حصل على تمويل من روكفلر الرأسمالى الأمريكى بمليونين ونصف مليون دولار لإنجاز دراسة عن العالم الثالث، وقد هاجمت المجلس بعنف فيما يشبه النشرات أو المذكرات…)) انتهى.
عندما نسرد تلك الوقائع التاريخية، فإن الهدف هو الوعي بأن المخططات ليست حديثة، وأن أمتنا كثيرًا ما واجهت مثل تلك المخاطر، كما أن من الضرروي اليقظة الدائمة والوعي بما يمكن أن يتم تسويقه من أفكار مدمّرة أيًا ما كان لباس صاحبها، وأن لا شيء يكون من الصعب على الأعداء توظيفه والتجارة فيه.