بفرض هدنة الأيام الأربعة وفق شروطها الخاصّة، ثم تمديدها يومين إضافيين، تكون حماس قد حقّقت نصرا ثانيا مؤزَّرا على الاحتلال بعد النصر التاريخي الكبير الذي حقّقته يوم 7 أكتوبر.
طيلة 48 يوما، حاول الاحتلال تحرير أسراه في غزة بالقوة، وشنّ هجوما وحشيا على سكانها، وألقى عليهم 40 ألف طن من المتفجّرات، وهدم المساكن والمستشفيات والمدارس على رؤوسهم، وارتكب مجازر وحشية بحقّ أزيد من 22 ألفًا منهم، باحتساب نحو 7 آلاف ما زالوا تحت الركام، وجنّد مئاتِ الآلاف من جنوده لاجتياح القطاع وتحرير الأسرى، واستعان بوحدة “دلتا” العسكرية الأمريكية التي تملك خبرة في تحرير الرهائن… لكنّ جهوده كلَّها ذهبت أدراج الرياح، ولم يتمكّن الاحتلالُ من تحديد أماكن احتجاز الأسرى، ولا تحرير أيٍّ منهم بالقوّة، واضطرّ في الأخير إلى التفاوض غير المباشر مع حماس، وقبول كلّ شروطها المتعلقة بتحرير أسراه، مع ما يعنيه ذلك من اعترافٍ غير مباشر بها. أليست هذه هزيمة مُذلّة ثانية للاحتلال بعد هزيمة 7 أكتوبر، ونصرا آخر لحماس والمقاومة؟
خلال الهدنة، دخل مئاتُ الفلسطينيين العالقين في مصر إلى غزة عبر معبر رفح، بدل أن يحدث العكس ويغتنم فلسطينيون فرصة فتح المعبر لدخول مصر والنجاة بأرواحهم، وهو نصرٌ آخر لهم على الاحتلال الذي ارتكب مجازر رهيبة بحقّهم لإجبارهم على اللجوء إلى مصر، وفشلَ في تجسيد هذا المخطط الخطير، لوعي الفلسطينيين بأنّه يهدف إلى تصفية قضيتهم نهائيا.
الاحتفالاتُ في الضفة الغربية بإطلاق سراح عشرات الأسرى كانت كبيرة برغم كلّ قيود الاحتلال، وهتف الفلسطينيون بحياة أبي عبيدة والسِّنوار، ورفعوا عاليا أعلام المقاومة، وهذا يعني أنّ حماس التي أراد الاحتلال سحقَها في غزة، قد وسّعت شعبيتَها إلى الضفة، في وقتٍ توارى فيه رجالُ السلطة الفلسطينية خلال الاحتفالات. وفي هذا نصرٌ آخر لحماس أغاض الاحتلالَ الذي كان يراهن على انقلاب الفلسطينيين على المقاومة وتحميلها مسؤولية مجازره في غزة.
صورُ أسرى الاحتلال وهم يودّعون آسريهم القساميين بالابتسامات والتلويح بالأيدي، وكذا تصريحاتهم التي أكّدوا فيها أنهم عاملوهم بلطفٍ وإنسانية تحت الأرض ووفّروا لهم ما تيسّر من غذاء ودواء وحاجات مختلفة، في وقت أجمع فيه الأسرى الفلسطينيون المحرَّرون على تعرُّضهم للضرب والتنكيل وسوء المعاملة في سجون العدوّ.. هذه الصورُ المتباينة أكّدت أيضا انتصار حماس وهزيمة الاحتلال أخلاقيًّا أمام العالم.
أمرٌ آخر لفت انتباه الجميع؛ فقد زار نتنياهو القطاعَ خفيةً، وخلال الهدنة، ومن دون إعلان مسبق، ولم تُبثّ صورُ الزيارة إلا بعد مغادرته القطاع، في حين فاجأ صناديدُ القسام الاحتلالَ بتجوّلهم في مدينة غزة علانية خلال تسليم الدفعة الثالثة من الأسرى في شبه استعراضٍ للقوّة، مع أنّ العدوَّ يدّعي بأنه يسيطر عليها، وهو ما أدهش المحلّل العسكري الصهيوني أمير بوحبوط، فعبّر عن المشهد بقوله: “حماس فقأت عين إسرائيل”!
بقي أن نتساءل عما إذا كان العدوُّ سيمدّد الهدنة مجددا، أياما أخرى، لإطلاق سراح أسراه العسكريين مقابل 9 آلاف أسير فلسطيني بسجونه، تمهيدا لوقفٍ دائم لإطلاق النار، أم يستأنف حربَه فور انقضاء الهدنة الممدَّدة يومين؟
مهما طالت أيامُ الهُدْنات المتعاقبة، نعتقد أنّ الاحتلال سيتحدّى في الأخير الضغوط الدولية المتصاعدة هذه الأيام لإيقاف الحرب، ويواصل القتال وينقله إلى جنوب القطاع هذه المرَّة، بهدف القضاء على المقاومة، وإعادة احتلال غزة، وفرض الأمر الواقع على الشعب الفلسطيني. ولتحقيق ذلك، سيرتكب المزيدَ من المجازر المهولة بحقّ الأطفال والنساء ويدمّر جنوب غزة كما فعل بشمالها، ولكن في المقابل ستتضاعف فرصُ صناديد القسام في اصطياد دباباته وآلياته العسكرية وقنص الآلاف من جنوده، إلى أن تنزل به هزيمة ميدانية محققة وينسحب مذموما مدحورا، وينتهي نتنياهو سياسيّا ثم يُسجن بتهم فسادٍ سابقة.
قالها جون بولتن، مستشارُ الأمن القومي الأمريكي السابق، في مقالٍ له بصحيفة “ديلي تيليغراف” البريطانية: “حماس حقَّقت نصرا كبيرا على إسرائيل”، ليتقاطع بذلك مع العديد من المحلّلين العسكريين والسياسيين الصهاينة الذين أضحوا يتحدّثون بوضوح تامّ عن مؤشرات هزيمة الاحتلال، والحقُّ ما شهد به الأعداء؛ فإسرائيل هُزمت، وجيشُها قُهر يوم 7 أكتوبر ثم في معارك غزّة، ومشروع “الاستيطان الآمن” انتهى، والقضية الفلسطينية بدأت تعود إلى الواجهة العالمية بقوّة، والشعوبُ تنتفض في شتى عواصم العالم وتندّد بهمجية الاحتلال، والدولُ الكبرى بدأت تتحدَّث مرغَمة عن “حل الدولتين”، ومشروعُ التطبيع ودمج “إسرائيل” في المنطقة أصيب في مقتل، والمنطقة مقبلة على تغييرات جوهرية، والقادمُ أفضل بإذن الله.
الوسومابو عبيدة حسين لقرع طوفان الاقصى هدنة بين حماس وإسرائيل
شاهد أيضاً
ألمانيا تدفع ثمن أخطائها الإستراتيجية من غزة إلى أوكرانيا…بقلم م. ميشال كلاغاصي
لطالما دعيت بالمحرك الأوروبي بفضل صناعاتها التي ضمنت لها مكانةً إقتصادية هامة, وقوةً عسكرية لا يستهان بها, استطاعت من خلالها رسم حكايتها مع التاريخ القديم والحديث, هي ألمانيا التي خاضت حروبها العالمية وكادت...