كتب د. الهذيلي منصر: فتنة “الحرف” أو في استحالة “البسّ”…كربلاء الأخرى

كتب د. الهذيلي منصر: فتنة “الحرف” أو في استحالة “البسّ”…كربلاء الأخرى

هناك نصوص عظيمة وأعمال فنيّة عبقريّة وتجارب روحية ودينية عميقة لم تكن لتبلغنا ولم نكن لنشهدها لولا تخلّص أصحابها من كلّ حساب. ابداع وبسّ أو فنّ وبسّ أو ايمان وبسّ، هذا هو السرّ ولا غيره من سرّ. جميلة ودالّة في القرآن صورة “وجه الله” الواردة في “إنّما نطعمكم لوجه اللّه” والمعنيّ بحسب ما تذكر المصادر هو عليّ وهو بذكر الله له، ولا شكّ، جدير. الغالب عبادة الله “على حرف” وهذه هندسة مقابلة تماما. هناك نظامان ذهنيّان وأخلاقيّان: نظام الحرف وهو أغلبي ونظام البسّ وهو نادر عزيز. في الحبّ حرف وبسّ، في الفكر حرف وبسّ، في الفنون والإبداعات، في الإيمان والتديّن أيضا والتصنيف هنا قرآني بتصرّف وهذا يعني أنّ جماعة التديّن معنيّة بهذا الأمر قبل غيرها وهي تحسب أنّ كلّ الغير معنيّ الّا هي.

التحوّل الكبير والوازن والذي يصلح أن يكون أعظم النياشين هو هذا: الإنتقال بالكلّية من نظام الحرف الى نظام البسّ. الواحد عندما يقارب الأمر هكذا يُشفق على نفسه قبل اشفاقه على الآخرين. عقبة كأداء ومفترق مُخيف. اذا نظرنا من هذه الزاوية، حتى الطمع في الجنة والخوف من النّار يصبحان من الفتنة ولكن الله أعلم بعباده فقد خلقهم ضعافا. يرى أنّهم متورطون في نظام الحرف ويحرّكهم نحو حروف غير تلك التي تأخذ الى افساد في الأرض وسفك دماء. من يملك من الجرأة ليقول مُشهدا النّاس على نفسه: أنا خرجت تماما من الحرف ودخلت في البسّ؟ هو من يبلغ هذا المقام يصمت صمتا مقدّسا ويذكر الشيطان كثيرا لأنّه قد يكون تحت سطوة وسوسته ولا يشعر. ما كانت رسالات وما كانت نبوات وما كانت أديان الّا ليحصل للإنسان الوعي المفيد بأنّه بين النظامين المذكورين ولدعوته الى نظام بسّ أو نظام وجه الله.

ماذا نفعل نحن، في الأغلب والأعمّ؟ نتحرّك من حرف الى حرف. يكون المرء في تجارة وللتجارة حرفها فينتقل الى السياسة وللسّياسة حرفها ومنها الى الدين وما أكثر أحرف الدين. العلوم أيضا تكثر حروفها. حقيقة جوهرية واحدة تظهر وتتجلى مُختلفة. بربكم الواحد عندما يكون سنّيا ومن أهل الحرف هل “يتبسّس” اذا تشيّع؟ هل يدخل في نظام البسّ؟ لو تيقّنت من أنّ هذا يحصل اليا وتلقائيا فسأتشيّع وأعلن ذلك ولا حاجة الى تقيّة. أكثر من ذلك لو أضمن هذا ببوذية اكون على دين بوذا ولن تثنيني عصبيّات. في التشيّع حرف وبسّ وأهل السنّة بين حرف وبسّ والمسلمون عامّة كذلك والنصارى وغير كلّ هؤلاء كثير. تقول لي أهل البيت؟ أقول نعم وهم الأسياد وهم لبّ المعنى وهم الوجهيّون وهم بسّ البسّ ولكن ما يقال في هذه القامات السامقات هل يقال في غيرهم لأنّهم يعرّفون شيعة آل البيت؟ يعني الشيعي حصل على صكّ الغفران واستوت ضميره على جودي الصّلاح الخالص؟ اذا قلنا أنّ الأمر كذلك سقطنا في هندسة “شعب الله المُختار. هو من يحبّ اهل البيت حبّ وبسّ هنيئا له وليس الأمر بالسّهل ولا المتاح تلقائيا. ليس الحبّ قولا في الحبّ في كلّ الأحوال.

شخصيّا أشهد أنّ جدارة اهل البيت بالحبّ كاملة غير منقوصة وهؤلاء معدن خاصّ. لكن لا أملك جوابا صريحا عن سؤال إن كنت أحبّهم حتّى لو شهد لي كلّ العالم أنّني أحبّهم كلّ الحبّ. لا أضمن لنفسي البسّ ولا يضمنها لي أحد والله أعلم بالقلوب. ليس مضمونا بالمرّة أن يكون الذي يهدي حبيبته سيًارة فاخرة أصدق حبّا من نكرة يرمقها من بعيد. كلّ ما نقدّمه ظاهرا ونسعى به حبا أو ايمانا أو فكرا أو سياسة، كلّ هذا لا يزن الّا بقدر نصيب النيّة فيه. الرّادود الحسيني قد يذكر الحسين وفجيعته طمعا في مال وقد يصادف نطق لسانه خفقة قلبه ولا أحد بوسعه حسم أمر نيّته. حضرت منذ فترة في كربلاء أجواء عاشوراء وهي ضخمة وفيها من العناصر والأبعاد ما يمكن أن نركّب به بدائل حضارية مفيدة للإنسانية ولمجتمعاتنا قبلها ولكن، كواليسا، ليست كلّ الأجواء هكذا وهناك ولا شكّ حسابات. حال الرادود لا يختلف كثيرا عن خطيب الجمعة عندنا. هو أيضا بين حرف وبسّ. بصراحة وصدق وهكذا أرى :نحن دون ما يأخذ الإسلام اليه. كلّنا بكلّ مذاهبنا وكلّ مدارسنا واجتهاداتنا دونه. ارتباطنا بتاريخنا الإسلامي أي تاريخنا كمسلمين أقوى بكثير من ارتباطنا بالإسلام جوهرية ومناطا وازنا. السنّة أبناء تاريخ حضروا فيه مركزا وسلطة ورأيا حدّيا حاسما لا يتنفّس فكرا وتأويلا. الشيعة أبناء تاريخ قهر وتهميش ومظالم وخوف وتوجّس وتقيّة وروايات مجنّحة تثأر من خصومهم في المذهب. نحن وهم في ذات الإعاقة الإبستيمولوجية وخلاصتها أنّ التاريخ يكبّلنا فلا نفهم الزمن القادم الّا استئناف خلافة (هذا اختصاص سنّي) أو ثأرا من قتلة الحسين (الشيعة في هذا أساتذة).

من قتل الحسين؟ قتله يزيد؟ لا أحسبه الا أداة بلهاء. واحد كالحسين لا يقتله الّا ابليس ذاته. صراع الأنبياء وآلهم ليس صراع أرض وتاريخ. هذا فقط ما تراه الأعين. إنّما صراعهم مع عتاة الشياطين وركح الصراع ساحة المعنى والقيم. بعد كلّ نبوة ترتع الشياطين. هكذا الله ركّب الوجود ووازن بين أقطاب الظلمة والنور والباطل والحق والشر والخير. اذا قلت لعامّة الشيعة أنّ ابليس هو من قتل الحسين ينهرونك والواقع أنّك بهذا القول تُعلى من شأن الحسين العالي أصلا وتخلع عن يزيد كلّ قيمة ولا قيمة له أصلا. عوامّ الشيعة بُرمجوا على أنّ يزيد هو القاتل والمجرم وأنّه خلّف ذرية ستقتصّ منها ذرية الحسين. هذا من أثر الدراما الجمعية وهي، شيعيّا، قاسية جدّا. هي دراما بين سياسية واجتماعية تركّبت بها النفوس وتشكّلت بها الذهنيّات فأوغلت في العقائد. كربلاء التقاء هموم كثيرة، همّ الحسين وهمّ ذرّيته وهمّ من ناصروه وهمّ كلّ الذين اكتووا بنار أمويين وعبّاسيين وعثمانيين عرّفوا أنفسهم سنّة والواقع أنّهم بين امراء وملوك وأباطرة احتاجوا لحكم بيئة مسلمة ايديولوجيا دينية. بل إنّ همّ كربلاء أيقظ هموما سابقات عنها: همّ صفّين والتّحكيم والسقيقة والوصية وحديث الغدير. أنا متعاطف مع كلّ المكلومين وأحسب أنّ الشيعة نالوا من الألم أعظم نصيب ولكن دراما الدين الأصيلة والأصلية لا يمكن أن تختزل وبأيّ حال من الأحوال في الدراما الذاتية أو الجمعية. اذا حصل الإختزال نسقط في الحرف ويصبح مطلوبنا من الدين أن يثأر لنا أو أن نثأر به واذا كانت الحجّة أهل البيت فهم الأعلم بما كانوا فيه والأدرى بما يُدفع للنبوّة والولاية من مهور وما أبعدهم عن الثارات وما أبعدهم عن كلّ ما نتخبّط فيه منذ قرون.

لا يعلم عامّة السنّة الشيء الكثير عمّا كان من تاريخ وعمّا كان من الام. بعضهم يعلم لأنه من المتعلّمين وهذا الصنف صار، أغلبيا، لا يهتمّ بالدين جملة وتفصيلا. هو معني اكثر بالدراسة وتحصيل الديبلوم والسعي في الرزق. مع ذلك فلأهل البيت مكانة خاصّة بين جلّ أهل السنّة حبّا في الرسول. لم تكن جدتي تعلم عن كربلاء وصفين عندما كانت تذكر عليّا مقرونا بمحمّد في كلّ نائبة. لم تكن تعلم ولم أعلّمه. كان عليّ قبل ذلك أن اصحح قرائتها لقل هو الله أحد وللمعوذتين ولم أفعل وما كنت احسب يوما أنّ المرتّلين والحافظين أقرب الى الله وأولى بجنّته. قد يسقط هؤلاء أكثر من جدتي في الحرف ويغرقون. وحكمة أنّ المرء اذا قرأ القرآن لم يقرأ منه الّا المعوذتين. في النهاية ومهما اختلف وتنوّع ما نكون فيه نبقى بين الله والشيطان. في كربلاء، منذ الحدث الأليم والى اليوم، الله والشيطان. كذلك هما في مكّة والمدينة وفي روما وباريس وصولا الى معابد البوذيين والهندوس. هما في كلّ مكان وزمان لأنهما في الإنسان العابر للزمان والمتحرك في المكان. هكذا مشهدنا الوجودي واسعا وواضحا ولكننا ملل وجماعات وأقدار تاريخية مختلفة وكلّ هذا يشوش المشهدويضيّق عين الرّؤية. تصنيف الخلق بين يزيديين وحسينيسن يستقيم ولكنّه لا ينطبق ضرورة بشكل كاريكاتوري مراهق: لا الشيعة حسين ولا السنة يزيد.

يضيّع السنّة كثيرا من الوعي بالإسلام عندما لا يتدبرون سير ال البيت ونصوصهم ووصاياهم . هؤلاء زبدة معاني الإسلام وهم حججه البالغة البليغة. هذا التدبّر لا يفرض عليهم التحول من قوم يعرّفون سنّة الى قوم يعرّفون شيعة. يعين تدبّر سير ال البيت كثيرا عندما نروم التحول من الحرف الى البسّ وذلك شرط الصلاح. لا ينتظرنّ أحد من غير أن يصارع الشيطان بدلا عنه وقد قهر الحسين الشيطان تماما بكربلاء. لم تُخرس القوّة الباطشة النبوَة المتجلّية حسينا وليست النبوّة الا ذلك التحرّر من كلّ حساب وحرف. نسي العالم يزيدا ووحده الحسين يذكر تبجيلا وتمجيدا. لا نحتاج ذهابا الى كربلاء لنكون فيها فهي رمز ومعنى ومن ذهب حبّا في الحسين واعترافا بالفضل فذلك من الخلق العظيم ومن الرجولة. كربلاء لا تغادر مكانا وزمانها لا يزول. دائما نحن في امتحان الحقّ والقوّة. دائما بين الحرف والبسّ. يزيد جاهلية بحروف اسلام وقبلية بفتوى دين. الحسين صاحب قبلة وحفظ عن أبيه درس وجه الله.

يفصّل الشيعة كثيرا في كربلاء ويعلمون أكثر من غيرهم عن دقيق تفاصيلها وليست مشكلتهم هنا. مشكلتهم أنّهم عاشوا كربلاء تراجيديا قاسية وغفلوا عن الجانب الملحمي فيها وهو الأهم والأبلغ وهو الذي من أجله كانت كربلاء. في النهاية الله هو الذي أراد لكربلاء أن تكون ومن رحمة الله أنها كانت لأنها هزت الوعي هزا عظيما. هناك من نخب الشيعة من يعي جيدا ملحمية كربلاء ويسعى في التأكيد عليها والبناء عليها ولكن الحالة الشيعية العامة معقّدة جدا بتضاريس مركّبة. الجانب التراجيدي طاغي وأفقه ثأري مع الأسف. سيكولوجيا الإعتقاد في العام غير سيكولوجيا المعرفة الرصينة والوصل والتأليف. منذ عقدين كانت الحالة الشيعية أقلّ تعقيدا وأسخى وعودا بحضور غالب للايرانيين وهؤلاء يفكّرون ويجتهدون مليا ويحاورون ويحسنون الإدارة. الآن هي حالة موزعة بين جغرافيات مختلفة، عراقية، بحرينية، لبنانية، خليجية، هندية، لندنية وصولا الى المتشيّعين، يعرّفون بالمستبصرين. طبعا هؤلاء عنوان واحد ولكن تشقّهم اختلافات ذهنية مخيفة. أمزجة بين بداوة ودعوشة وعصبية. لا أتمنى حصول ما أتوقّع ولكن من السهل رؤية الإيرانيين يُستهدفون بهذا التنوع وهو في جانب منه مُخترق غربيا وصهيونيا. لا تستفيد ايران ممّا يتحرك فيه احمد سلمان ولا هي تستفيد من سموم يبثها شيعة من لندن. سيسعى في تحميل ايران مسؤولية كلّ هذا لأن ذلك ينفع سياسيا.

المسلمون بما هم اصحاب ميراث معنوي مُعتبر أمام فرصة تاريخية نادرة بالنظر الى ما يعيشه العالم من فراغ ولكن لا أراهم جاهزين لاستثمار هذه الفرصة. لم يتحرّروا من تاريخهم بعد ليكون منهم تحرّر آخرين. كلّ يدّعي اصالةً وجدارة وأحقية قيادة. اذا بقوا على هذه الحال فستكون حروب طاحنة بين المذاهب وأهلها وستطلب شعوبنا خلاصا من كلّ الدين. بعضهم ليثبت أنّه أكثر تشيعا من الشيعة أنفسهم يكاد يسب سنّة لأنهم لا يكترثون لعاشوراء وكربلاء. هو الرسول المؤيد بالقرآن وصفته أنّه مذكّر لا مسيطر. اذا انت أصابك بعض نور فاحمد الله عليه واطلب أن ينال غيرك من النور نصيب ولا ينال أحد نورا الا بإذنه تعالى. لا الله طلب منك أن تقوم في الناس خطيبا هكذا ولا الحسين أذن وبارك. ممكن فتوى وفي هذه الحالة روح الفتوى يزيدية. عادي أن يكون المرء بلسان حسين وقلب يزيد. مصائب الإنسانية منذ الاف السنين بسبب هذا المزج القبيح.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023