كتب د. الهذيلي منصر: “في الدّجال والمسيح والمهدي”

كتب د. الهذيلي منصر: “في الدّجال والمسيح والمهدي”

ينتظرُ مؤمنون ومن ديانات مختلفة ظهور الدجّال وعودة المسيح عليه السلام عند ظهوره. هم ينتظرون لأنّهم يتمثّلون الدجّال شخصا وقد يكون كذلك ولكنّه قبل ذلك معنى أو حالة ذهنية أو سياقا فكريا ثقافيا وكيف لهذا الدجّال الشخص أن يمرّ ويفعل اذا لم يكن سياق دجل معمّم يستثمره ويوظّفه. لا يأتي الدجّال بالدّجل. يحصل العكس تماما فلا يكون الدجّال الّا تشكّلا مشخّصا للدّجل. هذا يعني أنّ الدّجل هو الذي يأتي بالدجّال.كذلك اذا نظرنا في عقيدة عودة المسيح وظهور المهدي عليهما السّلام. عودة المسيحية الأولى هي التي تعيد المسيح والإهتداء يأتي بالمهدي.
لست مسلّحا بواسع المعارف لأفصّل في هذه العقائد وأحسم فيها سلبا وايجابا وأقارن الروايات ولكنّني أرى أنّ هذه العقائد الآتية من بعيد ليست ميراثا انسانيا اعتباطيا وخفيفا وأنّما هي حاملة لمضامين ومجذّرة لرؤى لا أعتقد أنّ حركة الزمن الإنساني نجحت في تحييدها ودحضها. الأثنان، المسيح والمسيح الدجال يشكّلان قطبين وجوديين لازمين ومتلازمين يبرزان عندما تبلغ الإنسانية ذلك الحدّ القصيّ.
بعد كلّ نبيّ، والنبوّة حدّ قياسي، يعربد الشياطين وبعد كلّ طغيان شيطاني تعيد النبوّة البزوغ. هما متلازمان ومتتابعان. اذا سبق الدجال لحق به المسيح واذا سبق المسيح لحقه الدجّال. هذا التتابع أو قل هذا التلاصق هو الذي يمنع نهاية التاريخ ويجنّب الحياة التكلّس والجمود. جوهرا تقوم فكرة نهاية التّاريخ على ارادة غير معلنة بأن يكون خلق جديد وبأن يتشكّل وجود جديد بمقدّمات أخرى غير تلك التي ثبّتتها الأديان وثبّتتها أيضا الفلسفات والنظريات العلمية: الحركة الدائمة وجدل الفناء والبناء أو الموت والحياة.
لماذا أفكّر هنا والآن في أمور بين غريبة وغيبية؟ أفكّر لأنني أرى أنّ الإنسانية تبلغ بمحطّتها الرّاهنة حدّا فارقا من النوع الذي يُبلغُ مرّة بعد قرون متّصلة وربّما بعد ألاف من السّنين. أرى أيضا أنّ هذا الحدّ شيطاني وقصدي من انّه شيطاني تراكم الام وعبث وشرور. الشيطان صورة السّوء وهذا السّوء اليوم معمّم مُنتشر ولا تباري ولا تنافس انسانيّ تقريبا إلّا فيه بل هو سوء مقنّن بحجاج عاتي مع تقنيات اخراج رهيبة تحوّله بأعين بشريين مسحّرين خيرا عميما.
ماذا يكون هذا الذي نحن فيه غير نظام دجل مُحكم ومتحكّم. نحن في الدجّال تماما وانتظاره يمكّن للدّجل أكثر. شخصيّا لا أنتظره ولا أفهمه شخصا ولا يحتاج أن يكون ذلك. تخبرُ الأديان عن المخاضات الإنسانية المتجذّرة والعائدة دوريّا ولكنّها لا تُخبر عنها تجريديا ولا تفصّل فيها بالإعتماد على المفاهيم وإنّما تعتمدُ السّرد والاستعارة والمجاز والمسرحة فذلك أبلغ وذلك أنجع بحساب اللّسان وحالات الإنسان الذهنية والعقلية والنّفسية.
هي، اذا دقّقنا، نفس المخاضات والصراعات منذ الخلق الأوّل الذي أخبرت عنه الكتب المقدّسة والديانات. هو خلق أوّل بحساب من وبحساب ماذا؟ هل في حساب الله أوّل وآخر فهو الأوّل والآخر ولا يخضع لقوانين القبل والبعد فهو خالق الزّمن فكيف لزمن مخلوق أن يحيط بخالقه. ليس خلقا أوّلا في شيء الّا بحسابنا البشري. بحساب فوق بشري هو خلق دائب دائم متجدّد ومع كلّ نفخة روح آدمٌ يُقدّ وملائكة متوجّسة منه وابليس يستعديه واله يتوسّم فيه الخير وهو يعلم عنه ما لا يعلم الآخرون. نفس الرّكح ونفس الكواليس ونفس المشهد الإنساني. يكون ذاتيا فرديّا ويكون جمعيّا ويكون اجتماعيّا وهو الآن مشهد بحجم الأرض معولمٌ لأوّل مرّة ربّما خلال تاريخ الإنسانية الطويل بعد حقب وأطوار كان البشر خلالها متباعدين.
لا نهاية للتّاريخ ولا يملك الأنسان أن ينهيه وإن سعى في ذلك بكلّ الفهلوة الجيوستراتيجية والسياسية والعسكرية. لا نهاية للإنسان كما عرفناه وكما هو وإن كثرت المخابر وزاد العبث بالجينات وطغت برمجة العقول. كلّ هذا من ايهام وتخييل ابليس ولن يفلح الا قليلا. صحيح أنّ فهم ما يحدث عسير لأنّنا لا ننجح في ترجمة ديناميات عالمنا المعقّد وربطها بالنصوص المقدّسة القديمة التي نؤوّلها ظاهريا ونبقى حبيسي سرديّاتها المباشرة فلا ننفذ الى مغزاها المعنوي ولكن لا خروج اطلاقا من البراديغم الوجودي المثبّت عبر قصّة الخلق الآدمي الأوّل.
نحن ننتظر المهدي وهو ذاته المسيح وهو ذاته النبيّ وكلّ نبيّ. أقصد أنّنا الآن تحت حكم الدجّال وتحت سطوته وهو الذي يأخذنا، رغما عنه، الى طور هو عكس ما يُريدُ ويأملُ ويخطّط. فقط وبحساب غريزة البقاء التي تسكن في عمق كلّ كائن بشري ستكون قيامة روحية وستكون صحوة ضمير. ثمّ إنّ الله يعلم عن الإنسان ما لم تعلم ملائكة وشياطين. هذا المعلوم من الله حصرا عن الإنسان سرّ باهر وبه ومنه يأتي كلّ خير جديد. ليس الكلام الذي سبق كلاما نظريّا وكفى وليس كلام جزعٍ يعزّي نفسه بأساطير الأوّلين وينسى بها نكبات الزّمن والتّاريخ. هو نظر قبل تحقّق وتحقيق وهو استشراف تستدعيه تحوّلات ضخمة ومصيرية يشهدها العالم. متفائل ذلك التفاؤل الذي يتجاوزني الى الإنسان. للبيت ربّ يحميه، قد يخرب البيت مرّة بعد مرّة ولكنّ قواعده معنويّة محصّنة محميّة لا علاقة لها بحجر وطين وبعد كلّ خراب يقدم ابراهيم ويرفع القواعد ويطوف الطّائفون.
تذكر روايات متواترة أنّ المهدي يُصلحه الله في ليلة ويظهر بين الرّكن والمقام. هذا من موغل الإشارة وبديع الإخبار ورائق التّبشير. هو ابراهيم في شكل مهدي ويعيد رفع القواعد وقد خرب البيت وإن كنّا نراه بحساب الحسّ الكاذب قائما بهيّا. من الطبيعي حينها أنّ يصلّي المسيح وراء المهدي. يصلّي الابن وراء أبيه وابراهيم أبُ التّوحيد. على كلّ من ذكرنا أزكى الصلاة وأعطر التّسليم ولن نستثني من ذلك الدجّال فهو خادم النبوّة الأمين. يبلّغنا حدّا ليس بعده الّا نبيّ.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023