لا غلوّ في القول إنّ توقيع «اتفاق التعاون الاستراتيجي» بين الصين وإيران في 27 آذار/ مارس 2021 يشكّل مفترقاً في علاقات القوى في العالم عموماً وغرب آسيا خصوصاً. فقد قوّض وحدانية الولايات المتحدة القطبية التي تمتعت بها مذّ انهار الاتحاد السوفياتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وأرهص بانحسار توسعيّة «إسرائيل» في منطقة غرب آسيا على حساب الدول العربية والإسلامية بين شواطئ البحر الأبيض المتوسط غرباً وشواطئ بحر قزوين شرقاً.
أبرز المتضرّرين من «اتفاق التعاون الاستراتيجي» اثنان: الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. فالاتفاق يشكّل دليلاً ساطعاً على فشل سياسة أميركا المعروفة باسم «الضغط الأقصى» لحمل إيران على التراجع والقبول باستئناف المفاوضات لعودة أميركا الى الاتفاق النووي الذي كانت انسحبت منه، وذلك لفرض مزيدٍ من القيود على مجهود إيران النووي كما على صناعتها الصاروخية الباليستية بعيدة المدى.
أميركا راهنت كثيراً على فعالية عقوباتها على إيران وانهيار اقتصادها لعزلها وإكراهها على العودة الى المفاوضات بشروط واشنطن ما يؤدي الى اضطرابات داخليّة تفضي الى تغيير نظامها السياسي.
«إسرائيل» راهنت مثلها على نجاح العقوبات الاقتصادية في إنهاك إيران لتمكين الجيش الإسرائيلي من تقويض وجود إيران العسكري في سورية وتصفية ما تسمّيه أذرعتها الإقليمية المتمثلة بالمقاومة اللبنانية (حزب الله) والمقاومة الفلسطينية («حماس» والجهاد الإسلامي).
آمال أميركا و«إسرائيل» بدّدتها إيران بتعظيم مخزونها من اليورانيوم المخصّب اذ أصبح لديها اليوم نحو 12 ضعفاً مما كان لديها منه عشيةَ الاتفاق النووي صيفَ 2015 (صحيفة «هآرتس»31/3/2021). كما تمكّنت تنظيمات المقاومة من حماية وجودها وتفعيل أنشطتها في الجولان السوري والجنوب اللبناني وقطاع غزة الفلسطيني ناهيك عن جبهات القتال الفاعلة في اليمن ضد القوى المدعومة من أميركا والسعودية.
لعلّ أهمّ مما تقدّم بيانه المعاني والمكاسب والتحوّلات التي ينطوي عليها «اتفاق التعاون الاستراتيجي» بين الصين وإيران. ذلك أنّ مدته 25 عاماً تضخ خلالها الصين اكثر من 400 مليار دولار لإنتاج مكوّنات طاقويّة وتكنولوجيّة وبنى تحتية وتعاوناً عسكرياً يجعل من إيران حلقة مركزية في مخطط «الحزام والطريق» الصينيّ بما هو تجديد لـ «درب الحرير» القديم التي أمّن التبادلات التجارية الواسعة بين بلدان آسيا واوروبا. فإلى «درب الحرير البري» الجديد الذي يربط الصين ببلدان جنوب شرق آسيا وغربها، وبروسيا وأوروبا، ثمّة «درب حرير بحري» يربط موانئ الصين بموانئ جنوب آسيا وجنوب المحيط الهادئ والشرق الأوسط والحوض الشرقي للبحر المتوسط وشمال أفريقيا وجنوب أوروبا.
في إطار مخطط «الحزام والطريق» تقوم الصين بإنشاء بنى تحتية للاتصالات والمواصلات والاستثمارات والمرافئ والطرق وسكك الحديد والمطارات ومحطات الطاقة الكهربائية على نحوٍ يقلّص المخاطر المالية ويوفّر درجة عالية من الأمان ما يجعلها منافساً ندّاً لأميركا وأوروبا في هذه المجالات.
الى ذلك، يُفرز «اتفاق التعاون الاستراتيجي» جملةَ تداعيات تصبّ في مصلحة الدول العربية والإسلامية المشرقيّة على النحو الآتي:
إيران تصدّر الى الصين حالياً اكثر من مليون برميل يومياً تمثّل 7 في المئة من إنتاجها النفطي ونصف صادراتها في هذا القطاع. بعد «اتفاق التعاون الاستراتيجي»، يُنتظر ان تضاعف إيران صادراتها النفطية الى الصين وأن تستفيد ايضاً من استثماراتها في مجالات الصناعة والتكنولوجيا والاتصالات.
العراق كان توصّل خلال حكومة عادل عبد المهدي الى اتفاق مبدئيّ مع الصين بمئات مليارات الدولارات لتمويل وتنفيذ مختلف المشروعات الإنمائيّة. أصدقاء أميركا في العراق أكرهوا حكومة عبد المهدي على التنحّي وجاؤوا بمصطفى الكاظمي على رأس حكومة جديدة تنحو في سياستها منحى التعاون مع السعودية من دون إزعاج إيران. مع ذلك فإن من شأن دعم قدرات إيران بعد اتفاقها مع الصين تعزيز نفوذ أصدقاء إيران في العراق، خصوصاً التنظيمات المنضوية في إطار «الحشد الشعبي» المتعاونة مع تنظيمات المقاومة المعادية للكيان الصهيوني في سورية ولبنان وفلسطين.
سورية اعتمدت وما زالت تعتمد كثيراً على إيران في مجالاتٍ عدّة، خصوصاً في متطلبات الدعم المالي واللوجيستي. ولا شك في ان رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران سينعكس إيجاباً على سورية في وجوه عدّة من حيث حمل روسيا على تعزيز تنافسها مع إيران للحصول على نفوذ أوسع في سورية وذلك بدعمها في مجابهتها تركيا التي تحتل مناطق واسعة في غرب البلاد (عفرين وإدلب) وفي شمالها (الرقة والحسكة) ومساندتها بعض الحركات التي ترمي الى إقامة مناطق حكم ذاتي في المناطق آنفة الذكر. باختصار، إنّ تزايد قدرات إيران على دعم سورية سيحمل روسيا على تعزيز دعمها لدمشق، وسيحمل تركيا على خفض دعمها للحركات الانفصاليّة والمعارِضة للحكم المركزيّ في دمشق.
لبنان كان تلقّى عرضاً من الصين بتمويل وتنفيذ مشروعات إنمائيّة تناهز قيمتها 12 مليار دولار. لكن الاضطراب السياسي والانهيار الاقتصادي ونفوذ اصدقاء أميركا في لبنان حالت دون تقبّل المنظومة الحاكمة العرض الصينيّ. غير أن تلكؤ دول الغرب الأطلسي في مدّ يد العون المالي والاقتصادي الى لبنان قد يحمل المنظومة الحاكمة، عاجلاً او آجلاً، على تقبّل العرض الصيني. الى ذلك، فإنّ اتجاه إدارة الرئيس جو بايدن الى إعادة بلاده للاتفاق النووي خلال مدة شهرين من تاريخ انعقاد مؤتمر الدول الموقعة على الاتفاق النووي في فيينا اليوم الثلاثاء سيؤدي الى رفع العقوبات المفروضة على إيران وعن ارصدتها المالية المحتجزة في الولايات المتحدة وغيرها من الدول ما يؤدي تالياً الى امتلاك طهران قدرات مالية تمكّنها من زيادة دعمها لقوى المقاومة في لبنان. هذا الاحتمال الراجح قد يدفع الولايات المتحدة وحليفاتها الأوروبيّات الى إبداء مرونة أكثر في مسألة دعم لبنان مالياً واقتصادياً والى تخفيف دعمها لـ «إسرائيل» في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة.
في فلسطين، تدعم إيران بسخاء تنظيمات المقاومة في قطاع غزة مالياً وعسكرياً، وتتعاون مع سورية في توريد الأسلحة والعتاد اليها. ولا شك في أن رفع العقوبات عن إيران وتزايد قدراتها بعد اتفاقها الاستراتيجي مع الصين سينعكس إيجاباً على قوى المقاومة في كل بلدان المشرق العربي، لا سيما فلسطين.
ليس المقصود بالتحليل آنف الذكر رسم صورة زاهية للوضع في غرب آسيا بعد «اتفاق التعاون الاستراتيجي» بين الصين وإيران بل رصد المتغيّرات والتحوّلات الناجمة عنه. لكن ذلك لا يحجب بطبيعة الحال التحديات والمعوّقات المحيطة بالأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية التي تواجه دول المنطقة. فالولايات المتحدة ما زالت منخرطة في صراع مرير مع الصين وروسيا، و«إسرائيل» ما زالت تتخوّف من أخطار شديدة تهدد أمنها القومي مصدرُها إيران وقوى المقاومة في الدول العربية المحيطة بها، لذا تبقى حريصة، شأن الولايات المتحدة، على مواجهة الأعداء الذين يزدادون عدداً وقوة ومنعة.
الصراع، إذاً، مستمرّ ومتفاقم…
*نائب ووزير لبناني سابق.
(البناء)