العلاقات بين أذربيجان و”إسرائيل” جعلت الأخيرة عاملاً مؤثراً في الصراع الأذربيجاني-الأرميني المستمر، حيث وجدت تل أبيب بالتوتر المتصاعد في جنوب القوقاز مدخلاً لها ضد طهران، بالإضافة إلى مصالح أخرى اقتصادية.. فما دور “إسرائيل”؟ وأين تتموضع إيران؟
سارعت “إسرائيل” في عام 1991 إلى الاعتراف باستقلال أذربيجان، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ولم يمضِ عامان حتى كانَ لـ”تل أبيب” سفارة في العاصمة الأذربيجانية باكو. خلال تلك الفترة كانت أذربيجان تخوض حرباً مع أرمينيا.
لمحة تاريخية عن الصراع الأذربيجاني الأرمني
تعود جذور الخلاف بين أذربيجان وأرمينيا إلى عام 1923 عندما أعطت حكومة الاتحاد السوفياتي منطقة “ناغورنو-كرباخ” (قره باغ) رسمياً لأذربيجان وحصل نوع من الاتفاق بين الأقاليم التابعة للاتحاد السوفياتي في جنوب القوقاز (أذربيجان أرمينيا جورجيا)، أدارته السلطة المركزية للأخير، أنهى سنواتٍ من القتال العرقي كان للسلطنة العثمانية دوراً بارزاَ فيه.
الخلاف بين أذربيجان وأرمينيا عاد إلى الواجهة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، حيث سعت كل من الدولتين المستقلتين حديثاً إلى ضم تلك المنطقة لها. أذربيجان ترى أن منطقة “قره باغ” تقع داخل أراضيها، فيما تستند أرمينيا إلى أن أغلبية سكان تلك المنطقة من الأرمن، مبررةً بذلك خضوعها لسلطتها.
وفي 10 كانون الأول/ديسمبر عام 1991، عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، بدأت منطقة “قره باغ” تطلب الاستقلال من أذربيجان، والانضمام إلى أرمينيا ولكن هذا لم يتحقق. وما تحقق هو إعلان الاستقلال فقط كـ”جمهورية مرتفعات قره باغ”، والتي لم تعترف بها أي دولة، بما فيها أرمينيا، رغم أن البرلمان المحلي طلب الانضمام إلى أرمينيا في عام 1988، كما أظهرت الاستطلاعات الشعبية طلباً مماثلاً.
انطلاقاً من ذلك، بدأت ما عرف بـ”حرب مرتفعات قره باغ” عام 1992، عندما بدأت مجموعات أرمنية في “قره باغ” بمواجهة عسكرية مع سلطات أذربيجان وذلك بدعمٍ عسكري ولوجستي من قبل الحكومة الأرمنية، واستمرت الحرب حتى عام 1994، وتم التوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار ضمن مساعٍ روسية (ومجموعة مينسك).
بين أعوام 2008 و2016 حصلت مناوشات عديدة بين أذربيجان وأرمينيا خلفت عشرات القتلى بين الطرفين دون التوصل إلى أي تسوية تنهي النزاع بشكلٍ كامل. وخلال الأسبوع الماضي، عادت تلك المناوشات بشكلٍ أكثر حدّة من جديد.. فما هي خلفيات الدور الإسرائيلي في هذه المواجهة؟ وكيف تتموضع إيران؟
الدور الإسرائيلي الداعم لأذربيجان
بيّنت وثيقة أميركية مسربة عبر موقع “ويكيليكس” في عام 2011 أن “إسرائيل” وأذربيجان وقعتا على صفقات أسلحة بمئات ملايين الدولارات. الوثيقة أظهرت أن “إسرائيل” تهدف من إبرام هذه الصفقات إلى “استغلال أذربيجان للتجسس على إيران”. وذكرت الوثيقة التي أرسلت من السفارة الأميركية في أذربيجان إلى وزارة الخارجية الأميركية في كانون الثاني/يناير عام 2009، أن “إسرائيل تحاول بناء تحالف أمني مع أذربيجان ووقعت معها على اتفاقيات أمنية لإنتاج طائرات بلا طيار”. وحسب معد البرقية، فإن “الهدف الأساسي الإسرائيلي في هذه العلاقات هو ضمان أذربيجان كحليف ضد إيران، كآلية للحصول على معلومات استخبارية حول إيران، إضافة لتسويق منتوجاتها العسكرية”، على أن تزود “إسرائيل” أذربيجان بتكنولوجيا عسكرية متطورة “تحسباً لحرب محتملة مع أرمينيا”.
وكشفت تسريبات وثائق “ويكيليكس” أن “إسرائيل” تتخذ من أذربيجان مقراً لها للتجسس على إيران، من خلال قاعدة متقدمة لجهاز الموساد لا تبعد سوى مسافة عدة ساعات من الحدود، يعمل فيها العشرات من عملائه باستخدام “وسائل متطورة من أجهزة التنصت”.
مجلة “فورين بوليسي” الأميركية تطرقت إلى ذلك أيضاً في عام 2012، متحدثةً عن محاولاتٍ إسرائيلية، لإيجاد موطأ قدم في القواعد الجوية لأذربيجان “بغية استخدامها في حال أي هجوم إسرائيلي محتمل على المنشآت النووية الإيرانية”. ونقلت المجلة عن مصادر استخبارية ودبلوماسيين قولهم إن “الولايات المتحدة استنتجت أن إسرائيل حصلت على موطئ قدم في القواعد الجوية الواقعة شمالي إيران”، معتبرةً أن تل أبيب “تمكنت من شراء مجال جوي وهذا المجال يدعى أذربيجان”.
معلومات المجلة الأميركية تزامنت مع توقيع “إسرائيل” وأذربيجان في شباط/فبراير عام 2012 على صفقة أسلحة بقيمة 1.6 مليار دولار تبيع تل أبيب بموجبها باكو طائرات بدون طيار وأنظمة دفاع. وفي السياق ذاته، نقلت وكالة “رويترز” عن عسكريين أذربيجانيين تأكيدهم أن “أذربيجان وإسرائيل تدرسان كيف يمكن للقواعد والمخابرات الأذرية المساهمة في أي هجوم محتمل على إيران”، وذلك في ذروة التصريحات الإسرائيلية حينها، عن إمكانية قيام تل أبيب وبشكلٍ منفردٍ بضرب المنشآت النووية الإيرانية.
ورغم نفي أذربيجان لذلك، فقد صرّح رسيم مصعبيوف، وهو وعضو في لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان، أنه من المحتمل أن تساهم بلاده في أي خطط إسرائيلية ضد إيران “على الأقل في حالة الطوارئ لاعادة تزويد القوات الهجومية بالوقود”، مشيراً إلى أن “إسرائيل لديها مشكلة تتمثل في أنها إذا كانت ستقصف إيران ومواقعها النووية فإنها تفتقر إلى إعادة التزود بالوقود”.
تلك الشراكة الأمنية والعسكرية تطورت، حيث وقّعت أذربيجان مع “إسرائيل” في عام 2016 (خلال المعارك مع أرمينيا) اتفاقاً لشراء منظومة “القبة الحديدية” الصاروخية. وأشار الرئيس الأذري إلهام علييف حينها، إلى توقيع عقود بين شركات أذرية وأخرى إسرائيلية، خلال السنوات الماضية، لشراء “معدات دفاعية” بقيمة تصل لنحو 5 مليارات دولار. وفي نيسان/أبريل عام 2018 تحدث الإعلام الإسرائيلي عن توقيع الحكومة الإسرائيلية مع الولايات المتحدة سلسلة اتفاقيات عسكرية مع عدة دول بينها أذربيجان. جاء ذلك، بالتوازي مع انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من الاتفاق النووي، وما كان يحكى عن نية أميركية-إسرائيلية مشتركة لضرب إيران.
وظهرت تلك الاتفاقيات بوضوح من خلال الاشتباكات الأذربيجانية-الأرمينية المتواصلة خلال السنوات الماضية، والتي كان آخرها إسقاط أرمينيا للطائرة من دون طيار “Elbit Hermes 900” منذ أيام، وهذا النوع من الطائرات يعتبر من أكثر أنواع الطائرات من دون طيار الإسرائيلية الصنع، تطوراً والأكثر ثمناً (سعر الطائرة 30 مليون دولار تمتلك منها أذربيجان 10).
جاء ذلك، بعدما قصفت طائرة مسيرة من طراز “Orbiter 1K” في تموز/يوليو عام 2017، موقعاً للجيش الأرميني في منطقة مرتفعات “قره باغ” المتنازع عليها. انطلقت الطائرة من الأراضي الأذربيجانية وسرعان ما كُشف أنها إسرائيلية الصنع، واللافت أن من قام بهذه الضربات نيابة عن أذربيجان “شركة أنظمة الدفاعات الجوية” الإسرائيلية، حيث وجه الادعاء العام الإسرائيلي في آب/أغسطس من العام ذاته لائحة اتهام ضد شركة طائرات مسيرة إسرائيلية قصفت أرمينيا نيابة عن أذربيجان خلال عرض عسكري.
ووفقاً للتقرير حينها، فقد أرسلت الشركة طاقماً إلى باكو، لعرض الطائرة المسيرة، والتي يمكن إضافة قنابل صغيرة إليها، وتم توجيهها إلى هدف عدو في “مهمة انتحارية”. وسبق ذلك أيضاً، استخدام أذربيجان خلال المعارك في عام 2016، طائرة إسرائيلية مسيرة انتحارية أخرى، من طراز “هاروب” تابعة لشركة الصناعات الجوية الإسرائيلية، مما أدى إلى مقتل 7 أرمينيين.
وفي عام 2018، كشف شريط مصوّر أُعد للترويج للجيش المحلي في أذربيجان استخدام المؤسسة العسكرية الأذرية لأنظمة أسلحة متقدمة من تطوير شركات صناعات الأسلحة الإسرائيلية. ويظهر خلال الشريط نظام “تايفون” المدفعي، من صناعة شركة “رفائيل” الإسرائيلية، والذي يطلق صواريخ “سبايك” من السفن البحرية الأذريّة. كما بيّن الشريط المصور طائرات من طراز “هاروب” (HAROP)، من صناعة شركة صناعات الطيران الإسرائيلية (IAI).
لا تقتصر العلاقات بين أذربيجان و”إسرائيل” على الشأن العسكري أو المخططات الإسرائيلية ضد إيران، بل لمصادر الطاقة أيضاً دور في تنامي تلك العلاقات. ففي الفترة التي كانت “إسرائيل” تبرم اتفاقيات عسكرية وأمنية مع أذربيجان، كانت تل أبيب ضمن أكبر خمس شركاء تجاريين لـ باكو، كما تُعد الأخيرة أكبر مورد للنفط لـ”إسرائيل”، حيث تزودها بحوالي 40 بالمائة من استهلاكها السنوي، بينما تُعتبر إسرائيل سادس أكبر مستورد لصادرات النفط الأذربيجاني، حيث يصل النفط الأذري عن طريق خط أنابيب يمر عبر تركيا، في حين شاركت إحدى المؤسسات التابعة لـ”شركة النفط الحكومية لجمهورية أذربيجان” (“سوكار”) في أعمال التنقيب عن النفط والغاز قبالة سواحل فلسطين المحتلة في فتراتٍ سابقة، وهو المشروع الأول من نوعه لشركة “سوكار” خارج منطقة بحر قزوين.
إيران تواجه الخطر الإسرائيلي في القوقاز.. لا أذربيجان!
العلاقات المتطورة والمتبادلة في المنفعة بين “إسرائيل” والسلطات في أذربيجان، وفي ظلّ سعي الأخيرة إلى المزيد من التسلح لمواجهة عدوها أرمينيا، كل هذا يشير إلى أن تل أبيب تلعب دوراً مركزياً وأساسيا في الصراع القائم إلى جانب باكو.
في المقلب الآخر، فإن أرمينيا التي وقعت عام 2015 اتفاقية “دفاع جوي مشترك” مع الحليف الروسي، تعتبر حالياً الشريك الاستراتيجي الأول لإيران في منطقة جنوب القوقاز، من جهة العلاقات التجارية بالإضافة إلى قطاع الطاقة، إذ أن يريفان شريك اقتصادي مهم بالنسبة لطهران، حيث تحتاج أرمينيا إلى النفط والغاز الإيرانيين، في حين أن أذربيجان تعتبر منافساً للأخيرة في هذا المجال. ولعلّ أبرز سمات التعاون بين طهران ويريفان في مجال الطاقة، هو خط الأنابيب لنقل الغاز إلى أرمينيا، الذي دشنه الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، مقابل حصول بلاده على إمدادات من الكهرباء الأرمينية.
ومن الناحية الجيوسياسية، فإن أرمينيا تجد في إيران الداعم الأوحد لها جنوباً مع وقوعها في منطقة معادية لها، من الشرق أذربيجان ومن الغرب تركيا ومن الشمال جورجيا، في حين أن إيران تستهدف من خلال علاقتها مع أرمينيا منع الولايات المتحدة و”إسرائيل” من محاصرتها في دول منطقة القوقاز. لذا، الصراع بين أرمينيا وأذربيجان، وإن اتخذت فيه إيران دور الوسيط، لكن تداخل العامل الإسرائيلي فيه إلى جانب أذربيجان يجعل إيران وكما هو واضح أقرب إلى أرمينيا، رغم البعد “الطائفي” المشترك مع أذربيجان، ذات الأغلبية الشيعية الساحقة.
وتعبير الأقرب هنا، لا يعني دخول إيران المباشر أو غير المباشر على خط الأزمة كما فعلت “إسرائيل”، لكنه يأتي قي سياق محاولات إيران لمواجهة الخطر الإسرائيلي على بلاد القوقاز بشكلٍ عام، وعليها بشكلٍ خاص، من خلال سعيها إلى إفشال المخططات الإسرائيلية الرامية إلى استغلال الأزمات في تلك المنطقة ضد إيران، حيث أنها تفصل بين مواجهة الخطر الإسرائيلي في القوقاز، وبين علاقتها مع أرمينيا، وبين الصراع الأرميني الأذرييجاني.
ورفضت إيران التي لم يتعدّ دروها طرح “الوساطة”، في أكثر من مناسبة المطالب الأرمينية بدعمها في الصراع ضد أذربيجان، إذ حذرت إيران أرمينيا خلال الأشهر الماضية من إجراء انتخابات رئاسية أو برلمانية في إقليم “قره باغ”، معتبرةً أن ذلك “سيزيد من التوتر في المنطقة”، كما جاء على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية عباس موسوي، في آذار/ماس الماضي.
على هذا النحو، يكون الدور الإيراني، داعماً لتخفيض التوتر في بلاد القوقاز، لا سيما وأن التوتر والتصعيد يعتبران مدخلاً للتدخلات الإسرائيلية الهادفة بشكلٍ أساسي، إلى محاصرتها وزعزة علاقات دول تلك المنطقة معها، وجعل دول جنوب القوقاز قاعدة للهجوم والتجسس عليها.
المصدر: الميادين