عندما قررت روسيا إرسال قواتها إلى سوريا لضرب الإرهابيين تحت مسمى “الثورة” السورية والمدعومين من ثمانين دولة، أوضح بما لا يدعو للشك بأن هناك إستراتيجية جديدة تَخُطها “روسيا” بإتفاق مع “الصين” للعالم وأساسها وضع حد للشرطي الكاوبوي “الأمريكي” والذي طوال ثلاثة عقود وهو يصول ويجول ويضرب هنا ويضرب هناك، فقد قصف “بلغراد” ودمر “بغداد” و”كابول” و”طرابلس الغرب”، وكان يفرض شروطه كما يشاء والكل يَذعن له، حتى أن حزب الجمهوريين في أمريكا سَمّوا الغرب الأوروبي بالعجوز وعززوا علاقاتهم ببلدان أوروبا الشرقية.
اليوم “بوتين” يرد بقوة على الغرب عمليا معلنا أن معادلة شرطي الكابوي إنتهت بلا رجعة، وأن نظام عالمي جديد يتم تشكيله على الأرض، وأن “الجيو-سياسية” الأوروبية يتم رسمها من قبل آلة الجيش الروسي، ولكي لا يترك أي مجال للشك عند المتكبر الأمريكي الذي يتعامل مع الآخرين بمفهوم الأسياد والعبيد.
دعونا نقول أن ما يحدث الآن ستكون له تداعيات لعقود من الزمن وستؤسس لواقع سياسي جديد يُعيد للأذهان الحرب الباردة ولكن بشكل جديد مع دخول التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي لكل بيت، من جانب آخر هناك “الصين” الحليف للروسي والمستعد داخليا من كافة النواحي للمفهوم الإستراتيجي الجديد للعالم وفقاً كما يبدو لإتفاق مع “روسيا” من تحت الطاولة وفوق الطاولة في “شنغهاي” و “البريكست”، لذلك أعتقد أن الأمور لاحقاً ستأخذ عدة منحنيات:
المنحنى الأول, على الصعيد العالمي:
التحالفات المناهضة لحلف “الناتو” سوف تتبلور ولكن بشكل فيه نِديّة وأساسه أن الأمن القومي لكل من “روسيا” و”الصين” هو بنفس أهمية الامن القومي الأمريكي، ومن يقترب ويتجاوز ذلك فسيعض أصابعه ندما، وهذا ما يحدث الآن في أوكرانيا، وهذه رسالة بالنار للمحلي والحليف بأن ما قمتم به ليس فقط غير مقبول بل هو تجاوز للممنوع بتاتا وعليه يجب أن تفكروا مليون مرة قبل عرض انفسكم على “الناتو” او أن تكونوا منطلق لاستفزاز “روسيا”.
– من جهة أخرى انتهى مفهوم الشرطي الأمريكي، صحيح أن هناك دول لها سيادتها لكن عليها ان لا تُهدد الأمن القومي لجيرانها، لذلك كان على “اوكرانيا” أن تبقى محايدة وتبتعد عن ما يهدد أمن دولة عظمى ك “روسيا”، وتضع نفسها دُمية في يد الولايات المتحدة ومخططاتها ضد “روسيا”، إن تصرفات رئيسها “زيلنسكي” الذي جاء بعد الإنقلاب على الشرعية في “أوكرانيا” هو الذي أطاح بمفهوم السيادة وأصل دولته إلى ما هي وستكون عليه.
– اما سياسة العقوبات الإقتصادية، وهي سياسة المتعجرف الضعيف الذي يُطلق النار على رجله قبل غيره، هي سياسة لا تمنع الدول من الحفاظ على سيادتها وعلى أمنها القومي، لذلك سنرى أن هذه السياسة ستنتهي بعد أن يستقر النظام العالمي الجديد الذي أعلن عنه الرئيس الروسي “بوتين” عندما أعطى الأوامر بتحريك جيش روسيا بكافة تشكيلاته باتجاه “زيلنسكي-اوكرانيا” والذي سيكون مصيره إلى الهاوية، فهذا الرئيس انتهى بعد حين وإلى الأبد.
– معادلة الطاقة وخاصة الغاز، السياسة العالمية بهذا الخصوص ستتغير وبحيث ستعمل “أوروبا” وبالتعاون مع “أمريكا” على البحث عن مصادر بعيدة عن “روسيا” بهذا الخصوص رغم صعوبة وتعقيد ذلك، ف “قطر” و”اسرائيل” والبحر الابيض المتوسط حيث الغاز متوفر وهناك امكانية لتحويل جزء منه إلى أوروبا وفق الرؤية الأمريكية، لا يمكن أن يكون بعيدا عن الصراع القائم خاصة ان روسيا موجودة بقوة في المنطقة بشكل مباشر في “سوريا” وغير مباشر عبر “إيران” وحلفاؤها، بمعنى مخاطر الطاقة من منطقة غرب آسيا وفي قلبه العالم العربي ستكون معضلة كبيرة لأوروبا.
المنحى الثاني- على الصعيد الاقليمي:
طبيعة النظام العالمي الجديد سوف تؤثر على مختلف أقاليم وقارات العالم، وسوف نرى ذلك في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، وسيؤدي التحرك “الروسي” في “أوكرانيا” لإعطاء دفعة قوية لجمهورية “الصين الشعبية” في تأكيد نظرتها ليس لدورها على صعيد العالم بل أيضا في الاقليم من حولها وفي قلبه “تايوان”، في حين سترتاح “فنزويلا” و “كوبا” الآن لأن كل المعادلات تغيرت، في حين سيقع “أردوغان” في معضلة كبيرة لأن ما بعد “أوكرنيا” ستأتي “إدلب” السورية.
أما في غرب آسيا فالواقع “الجيو-سياسي” سيتغير كليا، فأي موقف سيؤخذ ضد “روسيا” من قبل أمريكا والغرب وتدعمه “إسرائيل” و”الدول العربية” المعتدلة، سيقابله دعم “روسي” شامل ليس لِ “سوريا” فحسب، بل لِ “إيران” وكل محورها، ويبدو أن هذا سيناريو واقعي وتعتمد سرعة حدوثه على مواقف دول المنطقة وتماهيها مع المواقف الأمريكية والغربية، إلى جانب ذلك لن تهادن وتتسامح “روسيا” مع أي دولة تطرح نفسها بديل محتمل لتزويد الغاز لأوروبا، لذلك اعتقد ان “بوتين” أرسل صاروخ تحذيري لِ “قطر” عندما قابل وزير الطاقة الروسي الأمير “تميم” أمير قطر قبل عدة أيام ونتيجتها خروج تصريح قطري واضح بأن لا يوجد بديل متوفر للغاز الروسي لأوروبا.
المنحنى الثالث- على الصعيد الفلسطيني: (العنوان لا كبيرة للرباعية)
المتغيرات التي حدث على الواقع السياسي الرسمي الفلسطيني جذرية ومن الصعب جدا إحداث أي تغيير جوهري في طبيعة السياسات القائمة والمرتهنة بشكل كامل لأمريكا بإعتبارها الراعي لكل شيء، من جهة أخرى سياسة ما بعد الإنقسام دفعت بالسياسة الفلسطينية لأن يتهاوى استقلالها وتصبح رهينة للواقع “الجيو-سياسي” حولها الذي هو بطبيعته “إسرائيلي” بإمتياز او مُطبّع مع اسرائيل، لذلك لن تستطيع السياسة الرسمية الفلسطينية الخروج من القفص الامريكي-الإسرائيلي الذي دخلته بشكل طوعي، ولكنها ستبقى تنادي بعملية سلام ومفاوضات برعاية من الامم المتحدة لأن الرباعية سوف تنتهي فأمريكا والغرب لن يقبلوا بتواجد روسيا فيها في محاولة منهم لتحجيم دورها على مستوى العالم، وبالطبع إسرائيل ستلتزم والقيادة الرسمية الفلسطينية بشكلها الحالي لن تذكر الرباعية وسوف تتجاهل انه كان هناك شيء إسمه رباعية، لكن، الأمور لا تقف عند ذلك، ففي تبلور المحاور واصطفاف القيادة الرسمية لمنظمة التحرير في الحلف الغربي بشكل أو بآخر، فهناك في “غزة” من هو جاهز لأن يصطف في المحور الروسي.
إن طبيعة رد فعل أمريكا والغرب على الخطوة الروسية هو وحده من سيقرر طبيعة المحاور القادمة، وأعتقد شخصيا، أن أمريكا وجدت فرصتها لتنقذ نفسها وكبريائها وتتنازل لصالح التعددية القطبية وضمن مفهوم نفوذ جديد يؤسس لِ “يالطا” جديدة فيها “روسيا” و”الصين” من جانب و “الغرب” برئاسة “أمريكا” في الجانب الآخر، هذا التقسيم والنفوذ سيكون ظاهراً ولكن بخطوط وهميه وبدون حواجز وعوائق كما الحرب الباردة سابقا، نفوذ يستند لعقوبات اقتصادية سيتم تجاوزها خلال بضع سنين، فالعالم يعتمد اقتصاديا على بعضه البعض، وظهور “الصين” كقوة عالمية ثانية اقتصاديا سيمنع من احداث تأثيرات قاتلة على “روسيا” وسيؤدي بالضرورة لاحقا لالغاء العقوبات لصالح مفهوم التعاون كأمر واقع خاصة في أوروبا.
العالم يتغير بشكلٍ مُطرد ونحن للأسف لا زلنا نعيش حالة إنقسام وصراعات داخلية عنوانها المصالح الحزبية والشخصية مُغلفة بشعارات وسياسات تحاكي الوطنية والوطن وشعبِه يَئِنُّ ويصرخ في الداخل والشتات، إنها فرصة ذهبية لإعادة الإعتبار للقضية وللخروج من العباءة الأمريكية التي أدّت سياستها ومواقفها من الإحتلال الإسرائيلي إلى ضياع مفهوم الدولتين على أرض الواقع بعد أن سمحت للإستيطان ليبتلع الأرض ويهود القدس الشرقية.