ما زال الغرب يتصرَّف بعقلية الماضي، لَعلَّه لم يُدرك، إلى حد الآن، أن العالم تغيَّر وفات الأوان لِيتدارك أمرَه. عَدديا، أصبحت أقلية (أوروبا + الولايات المتحدة)، لا تزيد عن 14.1 بالمائة من سكان العالم، اقتصاديا، غير مُهيمِن على الإنتاج العالمي والتجارة العالمية كما كان قبل 30 سنة فقط من الآن، بلد واحد غير غربي (الصين) أصبح بيده أكثر من 14 بالمائة من التجارة العالمية، ويتحكم، في بعض الأحيان، في 80 بالمائة من بعض المواد الإستراتيجية التي تحتاجها أرقى الصناعات الإلكترونية مثل التربة والمعادن النادرة.. وعسكريا، لم يتمكّن بكل وسائله وعدّته وعتاده وأمواله وعقوباته ودعايته من مواجهة دولة واحدة (روسيا) تُقارعه الآن بِأَريحية، ودون خوف من تلويحاته بالتصعيد أكثر في أوكرانيا.
لقد اكتشف العالم اليوم حقيقة أن الغرب في طور الأفول، وإفريقيا فهمت ذلك أيضا، والشباب الإفريقي أول مَن أصبح لديه قناعة بذلك، ومِن قلب إفريقيا، باتت الحركات المناهضة للهيمنة الغربية -والفرنسية على رأسهاـ تتحرَّك، وهي تتذكر قرون الاحتقار والاستعباد والنَّهب، وتستعيد تلك الصور البشعة لجرائم هذا الغرب الهمجي والمتوحش قديما وحديثا، والساعي اليوم إلى تشويه الإنسانية بمحاولة تغيير خلق الله وفرض الشذوذ كقيمة جديدة ينبغي أن ترافق ديمقراطيته المزعومة…
لذلك، فما يحدث اليوم في مالي وبوركينافاسو والنيجر وإفريقيا الوسطى وغينيا، وما سيحدث في دول أخرى قريبا، إن شاء الله، إنما هو صرخة مدوِّية في وجه المستغلين الاستعماريين الجدد، بأنهم قد تجاوزوا المدى، ولا مجال بعد اليوم لتصديق أيِّ أكاذيب جديدة أو وعود وهمية من قِبلهم، تحت عنوان “شراكات إستراتيجية” مزعومة أو تعاون “مُثمر” أو صداقة “نزيهة”، كما يزعمون.. لقد أصبحت مثل هذه العبارات محل سخرية من قبل كافة الأفارقة… تأكّد الجميعُ اليوم، بعد مرور أكثر من 60 سنة على استعادة السيادة السياسية الوطنية، أنه لا ثقة في الغرب ولا إمكانية للنهوض معه أو مع بيادقه وعملائه…
ما الذي أضافته فرنسا التي تُسمِّي نفسها “قوة عظمى”، إلى مالي أو النيجر أو بوركينافاسو أو أيّ من الدول الإفريقية الأخرى التي تضعها ضمن دائرة الدول الفرانكفونية: هل نقلت لها التكنولوجيا؟ هل مَكَّنتها من صناعات محلية متطورة؟ هل أوجدت بها بنية تحتية قوية تعود بالخير على شعوبها؟ هل رفعت من مستوى معيشة أفرادها؟ هل ساعدت على تنمية ثقافتها ولغاتها الوطنية؟ أم زادتها تفقيرا وتجهيلا وفوضى، وشوّهت ثقافتها الوطنية، وزرعت بين أبنائها الفتنة بعد الأخرى تارة تحت عنوان الصراعات العرقية، وأخرى بعنوان الجماعات الإرهابية التي صنعتها بنفسها وزعمت محاربتها… هل كان الأفارقة سيهجرون بلدانهم بحثا عن فرص عمل أو عيش أفضل لو أن الغربيين لم يركّزوا سياساتهم على النَّهب وبناء الولاءات وتهميش الشعوب المقهورة والضحك على أذقانها؟ بكل تأكيد ما كان الذي يحدث اليوم يحدث لو لم يكن المرض حقيقيا متجذّرا في عمق العقل الغربي القائم على التمييز بين نفسه كمركز للأرض والكون والاقتصاد والمعرفة وكل شيء… والآخرين كمحيط لهذا المركز ينبغي أن يُؤتَمَروا بأوامره ويَنصاعوا لِما يُقرِّره بدلا عنهم.. ألا نرى اليوم في القرارات الصادرة عن الفرنسيين والإنجليز والألمان والأمريكيين وبعض أتباعهم، وفي التلويح بالحرب ضد النيجر، ما يؤكد هذا المرض الكامن في عمق الرجل الغربي تجاه الآخرين؟
أليس فيما نراه اليوم من مواقف ومبادرات للجيل الحالي في القارة الإفريقية من عسكريين ومدنيين، إشاراتٌ حاملة لمستقبل مشرق للقارة السمراء؟
لقد بات الجميعُ يقول: كفى تلاعبا بنا، ولا لتغريب عقولنا وثقافتنا واقتصادنا، ولا لفرنسا بالذات صانعة كل وسائل الأذى التي عرفتها القارة أثناء كفاحنا المسلح بالأمس، وأثناء محاولة بناء دولنا بعد استعادة سيادتنا الوطنية، ونعم لشق طريقنا المستقلّ نحو التقدم، ومَرحبا بحلفائنا غير الاستعماريين الذين لم يؤذونا في الماضي ولا نية لهم في التآمر علينا في المستقبل.