مرة اخرى يجري اردوغان مسرعاً الى حتفه من دون قراءة موازين القوى ومعطيات التاريخ والجغرافيا السياسية الجديدة التي بدأت ترسم ملامح العالم الجديد…!
ان سبر الدوافع الكامنة وراء تحرك تركيا أردوغان السريع ، ” لدعم ” اذربيجان في الاشتباكات الحدوديه الجارية بينها وبين جارتها ارمينيا ، في منطقة ناغورني كاراباخ / او كاراباخ الجبل / ، يجب ان يسبقه القاء نظرة فاحصةٍ ، على الوضع الحالي وكذلك التاريخي لهذه المنطقه الهامة من العالم . كما يجب النظر بدقةٍ الى ميزان القوى العسكري ، بين الدولتين المنخرطتين في هذه الاشتباكات ، أرمينيا وأذربيجان .
يشير ميزان القوى العسكري الى رجحان كبير في كفته لصالح اذربيجان ، سواءً في القوات البرية او الجويه ( ارمينيا لا تملك قوات بحريه لانها غير مشاطئة لاي من بحار المنطقه ) . اذ ان عديد الجيش الارمني يصل الى 26000 جندي فقط وحوالي ضعفهم من الاحتياط ، بينما يبلغ عديد الجيش الاذري العامل 216000 جندي ، يضاف اليهم 850000( ثمانمائة وخمسين الفاً ) من جنود الاحتياط . كما ان ميزان القوة في سلاح الجو لدى البلدين هو انعكاس لميزان القوى في البر . اي ان سلاح الجو الآذري يتفوق على الارميني بخمس مرات .
بالاضافة الى هذا الاختلال الكبير في ميزان القوى العسكري ، فلا بد ان نأخذ بالاعتبار العديد من العوامل اللوجستية الهامة ، التي تجعل اذربيجان افضل تجهيزاً وعتاداً من ارمينيا . اذ ان اذربيجان تتلقى :
•مساعدات عسكريه مباشرة من اسرائيل ، التي تزودها بمنظومات دفاع جوي من طراز باراك ٨ ( Barak 8 ) وطائرات مسيرة وتجهيزات حرب الكترونيه وعدد كبير من المستشارين العسكريين والامنيين ، الذين يتحكمون بمفاصل الجيش والاجهزة الامنيه الاذرية .
•كما ان أذربيجان تتلقى مساعدات عسكرية كبيره من تركيا ، التي تشرف بالكامل على برامج تدريب القوات الخاصه الاذرية ، بالتعاون مع مدربين من لواء غولاني الاسرائيلي . يضاف الى ذلك ما تقدمه تركيا من عتاد مختلف وعربات قتال مدرعة وغير ذلك .
•من هنا فان الحملة الاعلامية ، التي اطلقتها تركيا ، حول تزويدها لاذربيجان بعدد من الطائرات المسيرة من طراز بيرقدار / ت.ب.2 / ( Bairaktar TB 2 ) ليست الا ذراً للرماد في العيون وذلك لان لدى اذربيجان ما يكفي من الطائرات المسيرة الاسرائيليه ولان هذه الطائرة التركية ليست هي العصا السحريه القادرة على قلب موازين القوى في الميدان ، كما تدعي صحافة اردوغان الصفراء .
إذاً ما هو الدافع الحقيقي وراء خطوات اردوغان العسكرية المتهورة في القفقاس ؟
يجب ان لا ننسى ، عند الاجابة على هذا السؤال، ان تركيا عضواً اساسيا في حلف شمال الاطلسي ، وبالتالي فهي مخلب اميركي ، يستخدم تارةً في سورية ، واخرى في ليبيا ، وبعدها العراق ، والآن حان وقت تفعيل هذا المخلب الهدام ، في منطقة القفقاس ، اي على حدود روسيا الجنوبيه . خاصة وان لاردوغان اطماع واسعة في هذه المنطقة ، تمتد الى حدود الصين الغربية .
وبالتالي فان تحرك اردوغان هذا لا يمكن وضعه في خانة المغامرات العسكرية غير المحسوبة ، وانما يجب وضعه في اطاره الصحيح . هذا الاطار الذي يهدف الى تغيير الوضع الاستراتيجي في تلك المنطقة لصالح الولايات المتحده وحلف شمال الاطلسي ، وذلك من خلال :
أ)نشر التطرف الديني والفوضى العسكرية والامنية الشامله ، ليس في أذربيجان فحسب ، وانما في كل جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة هناك ، وذلك من خلال نقل آلاف المسلحين الارهابيين ، من بقايا فلول داعش والنصرة ، المنتشرين في منطقة عنتاب ، داخل تركيا ، وفي مناطق شمال وشمال غرب سورية .خاصة وان تقارير الجهات الامنيه الاوروبيه ، المتخصصه بمتابعة الحركات الارهابية في العالم ، تؤكد وجود ما لا يقل عن ثمانين الف مسلح في مناطق سيطرة الجيش التركي في سورية وفي مناطق الحدود السورية التركية .
ب)تعزيز سيطرة قوات حلف شمال الاطلسي ، على الدول المحاذية لحدود روسيا الجنوبيه الغربيه ، كأوكرانيا وجورجيا ، واضافة اذربيجان اليها والتي يخطط الحلف لاستخدامها كمنصةٍ للوثوب شرقاً ، باتجاه تركمينستان وطاجيكستان واوزباكستان وقرقيزستاان ، استكمالاً لتطويق روسيا من الجنوب وفصل ايران عن محيطها الاقليمي في وسط آسيا ، وما يعنيه ذلك من محاولات لتعطيل تنفيذ مشاريع برنامج / طريق واحد وحزام واحد الصيني العملاق ، الذي يشمل هذه الدول ايضاً الى جانب ايران وغيرها من الدول العربية .
ولكن اردوغان ، الذي يحلم باعادة عجلة التاريخ الى الوراء ويهلوس بامكانية نجاحه في السيطرة على الجغرافيا الواقعه بين بحر الادرياتيك ، في البلقان ، وبين الحدود الصينية ، لا يمكن ان تصل احلامه الى ابعد مما وصلت اليه احلام الامبراطوريه البريطانيه ، عندما كانت امبراطورية ، وحاولت ان تسيطر على افغانستان بحجة مواجهة التوسع الروسي في منطقة وسط آسيا .قامت بريطانيا آنذاك ، سنة 1838 بتجريد حملة عسكرية ، انطلقت بها من الهند ، لاحتلال افغانستان ، ودخلت في حرب مع المقاتلين الافغان الموالين للملك محمد خان ، الذي حاولت بريطانيا خلعه واستبداله بعميل لها . وقد استمرت تلك المغامرة البريطانية حتى شتاء 1842عندما اصدرت القيادة العسكريه البريطانيه اوامرها لقواتها المهزومه بالانسحاب سيراً على الاقدام ، عبر ممر خيبر ، حيث تمكن المقاتلون الافغان من ابادتها بالكامل ولم يصل منهم احد الى الهند ، مكان انطلاق حملتهم .
وقد اعاد البريطانيون هذه التجربة الفاشلة ، في اطار استراتيجية جديدةٍ لمواجهة نفوذ روسيا ، اسموها استراتيجية التقدم الى الامام . فقاموا بتنظيم حملة عسكرية جديده في افغانستان ، سنة 1878، استمرت حوالي عاماً كاملاً منيت خلاله القوات البريطانيه بهزائم نكراء واضطرت للانسحاب من افغانستان . ولكنها عاودت هذا الجنون مرة اخرى سنة 1919 انتهت بتوقيع اتفاق وقف اطلاق نار ، افغاني بريطاني ، اعطيت افغانستان بموجبه حق الاستقلال الكامل وانسحبت القوات البريطانيه بشكل كامل . تماماً كما يحصل حالياً بين الولايات المتحده وقوات الناتو من جهة وحركة طالبان من جهة اخرى …. عشرون عاماً من الحرب الفاشلة للوصول الى اتفاق على انسحاب آمن للقوات الاميركية .
ان روسيا الاتحادية الحاليّه ليست هي التي كانت في القرن التاسع عشر ، حيث كانت دولة ضعيفةً نسبياً بالمقارنة مع الدول الاستعماريه الاوروبيه آنذاك ، ولا هي روسيا سنة 1919، التي كانت تشهد ثورة غيرت وجه التاريخ ونتج عنها نظاماً سياسياً لم يعهده العالم سابقاً . آنذاك حاولت تلك الدول التدخل في شؤون روسيا الداخليه ، متوهمة انها دولة ضعيفة . فقامت تلك الدول بعمليات انزال بحرى في جنوب غرب روسيا على البحر الاسود ، وفي اقصى الجنوب الشرقي في منطقة المحيط الهادىء ( مدينة فلاديفوستوك) وفي القطب الشمالي ( منطقة موراميسك ) . ولكن روسيا انتصرت على جميع هذه الحملات وافشلتها .
ولعل من المفيد ايضاً تذكير ” السلطان ” اردوغان بان زميله في الاحلام المكنونة ، زعيم المانيا النازيه ، ادولف هتلر ، قد حاول ، سنة 1942/1941 الاستيلاء على منطقة القفقاس ، ووصل بجيوشه الى مدينة ستالينغراد ، التي لا تبعد سوى الف كيلومتر عن مدينة باكو ، عاصمة اذربيجان وقلب الصناعة النفطيه الروسيه / السوفييته / آنذاك ، والتي كانت تشكل هدفاً استراتيجيا له . ورغم ان الحظ قد حالفه ، في الوصول الى ستالينغراد ، الا انه ارتكب بذلك خطأً تاريخياً ، ادى الى ابادة الجيش الالماني السادس وجيش المدرعات ، بقيادة الجنرال باولوس ، وخسارة 600 الف جندي الماني وهزيمة منكرة حسمت نتيجة الحرب العالميه الثانيه .
فهل لك ان تقرأ التاريخ وتستخلص منه العبر ، ايها السلطان الحالم !؟
ان الوضع الاستراتيجي لمنطقة وسط آسيا كاملةً قد حسم لصالح روسيا في صراع الدول العظمى الامبراطورية في شهر شباط سنة 1942، بتحرير الجيوش السوفييتية لمدينة ستالينغراد ومنع تقدم الجيوش الالمانيه الغازيه باتجاه جنوب القفقاس . اي باتجاه اذربيجان .
لقد قضي الامر مذّْاك الزمن .
آسيا الوسطى لن تكون منطلقاً لتهديد وحدة الاراضي الروسيه ، ولا مسرحاً لنشر الحروب والاقتتال والفوضى فيها ، وفرض حالة من انعدام الاستقرار الاستراتيجي في كل دولها .
لان ميزان القوى الدولي لا يسمح لك بذلك ، وعليك ان تتذكر بان ابناء هذه الدول ، كتفاً الى كتف مع اخوانهم المواطنين الروس ، قد قدموا ما يزيد على 27 مليون شهيد للانتصار على النازية والحفاظ على بلدانهم .
كما لا بد من تذكير السيد أردوغان بان التغيرات ، التي شهدها العالم ، منذ نهاية الحرب العالميه الثانيه ، اعمق بكثير مما يمكن لعقله ان يستوعب . ومن ضمن اهم تلك المتغيرات بروز الصين كدولةٍ مستقلةٍ معاديةً لاسياده في البيت الابيض ، وتملك اقتصاداً سيبلغ حجمه ضعفي الاقتصاد الاميركي ، خلال العقد الثالث من هذا القرن .
اذن ، هناك استقرار استراتيجي في منطقة آسيا الوسطى ، في عهدة روسيا الاتحاديه وجمهورية الصين الشعبيه ، ولا يمكن لاحلامه البهلوانيه ان تغير فيه شيئاً . تماماً كما ان طائراته المسيرة ، من طراز بيرقدار ، التي ارسلها لاذربيجان لاستفزاز روسيا ومناكفتها ، ولا لطائرات حلفائه الموضوعيين في “اسرائيل” ، وهي من طراز اطلس برو ( Atlas Pro ) صناعة شركة اطلس داينامكس الاسرائيليه ، والتي ارسلوها ، قبل ايام معدوده ، كما نشر موقع الجروساليم بوست الاسرائيليه بتاريخ ١٦/٧/٢٠٢٠ ، الى اقصى شمال شرق النرويج ، بحجة المشاركة في عمليات بحث وانقاذ ، بينما هي في الحقيقه تقوم بمهمات تجسس على اسطول الشمال الروسي ، في ميناء مورمانسك في القطب الشمالي وعلى قطع هذا الاسطول المنتشرة في بحر بارينتس .
ما يعود بالفائدة على الشعب التركي وعلى الدولة التركيه ويفتح امامها ابواب التطور والازدهار اللامحدود بعيداً كل البعد عن سياساتك الحالية . ان الطريق الى ذلك يكمن في ان تستمع جيداً لكلمة السيد حسن نصر الله ، التي دعا بلاده فيها للتوجه شرقاً …..الى الصين والى روسيا وايران ، وتفهم عمق ما جاء فيها وعمق التغيرات التي يشهدها العالم ، وعلى مختلف الصعد ، كي تقود شعبك وبلادك الى نتيجة تختلف عن النتيجه ، التي وصل اليها زعيم المانيا النازيه ، ادولف هتلر .
مواكبة العصر هي طريق النجاح وليست المغامرات العسكريه الفاشلة المعبرة عن ضيق افق خطير لا يليق برئيس دولة اقليمية على جانب كبير من الاهميه كالجمهورية التركية .