ربّما تكون تركيا الدولة الأكثر اهتماماً بما يجري في تونس بعد قرارات الرئيس قيس سعيّد، حلّ الحكومة وتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن نوّابه. ذلك أن الحليف الأقوى الباقي في العالم العربي لأنقرة، هو حركة «النهضة»، الحزب الأوّل في تونس، ورئيسها، رئيس البرلمان راشد الغنوشي؛ إذ مع استثناء حزب «العدالة والتنمية» المغربي برئاسة سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة في الوقت ذاته، نظراً إلى الدور الحاسم للملك في مجريات الأحداث السياسية، تصبح «النهضة» الورقة الوحيدة المتبقّية من شجرة «الإخوان المسلمين» في العالم العربي، وهي على علاقة وثيقة بحزب «العدالة والتنمية» في تركيا ورئيسه، رئيس الجمهورية رجب طيب إردوغان.
لغاية الآن، تتّصف تصريحات المسؤولين الرسميين الأتراك بالحذر الشديد خشية الوقوع في «خطأ» ليس هذا وقته، إذ تعمل أنقرة في هذه المرحلة على تحسين علاقاتها مع الخصوم، ولو بنسب متفاوتة. فالرئيس التركي لم يعبّر بعد عن موقفه المباشر ممّا حدث، فيما اكتفى وزير خارجيته، مولود جاويش أوغلو، بالاتصال بنظيره التونسي، عثمان الجرندي، ليعرب عن «قلقه» إزاء تطوّرات الوضع على الأمن والاستقرار في تونس، وعن ثقته بأن الشعب التونسي سيتجاوز هذه المرحلة الحسّاسة. في المقابل، لم يتردّد المحيطون بحزب «العدالة والتنمية» في وصف ما جرى بأنه «انقلاب». فها هو برهان الدين دوران، أحد صانعي سياسات «العدالة والتنمية»، يقول، في مقالة لصحيفة «صباح»، إن «الديموقراطية الوحيدة المتبقية من الثورات العربية في أزمة»، بعد تنفيذ «انقلاب مدعوم من الجيش»، لن يحلّ بدوره «مشكلات تونس الاقتصادية والسياسية». ويرى الكاتب أن الرئيس التونسي «استلهم من انقلاب السيسي ليقوم بانقلابه بدعم من دول الخليج… وليس تحرُّك الإمارات في تونس أخيراً خافياً على أحد». وفي الوقت نفسه، يلفت دوران إلى أن الغنوشي، بدعوته الشعب للنزول إلى الشارع والدفاع عن الديموقراطية، «إنّما يحاول استلهام النموذج التركي في دعوة إردوغان الأتراك إلى النزول ومقاومة انقلاب 15 تموز 2015». وبالنسبة إلى دوران، هناك «خطر جدّي في خنق آخر تجربة ناجحة للتناغم بين الإسلاميين والديموقراطية في العالم العربي»، وليس أبلغ على ذلك من قوْل اللواء الليبي المتقاعد، خليفة حفتر، وفق الكاتب، إن «تونس تحرّرت من أكبر عقبة أمام تطوّرها عبر انتفاضتها ضدّ الإخوان المسلمين». وعليه، يعتبر أن «النهضة» أمام امتحان قاسٍ لحماية نفسها سلمياً وحماية الديموقراطية. أمّا تركيا، فَمِن الطبيعي أن تطالب بالوقوف في وجه «الانقلاب ضدّ النظام الدستوري»، وإعادة تأسيس الديموقراطية، فيما تبقى الدول الغربية صامتة لأنّ «مصالحها تتقدَّم قيمها».
من جهته، يقول حقي أوجال، المؤيّد لحزب «العدالة والتنمية»، في مقالة لصحيفة «ميللييت»، إن «الورقة الأولى التي تفتّحت (في الربيع العربي)، قد ماتت»، ذلك أن ما وصفه بـ«الرأسمالية الدولية»، والتي تتزعّمها السعودية والإمارات، تعمل على «قتل الأمل الأخير للديموقراطية». ويرى الكاتب أن البلدَين استفادا من فشل انقلاب 15 تموز في تركيا، «ليُعدّا الانقلاب بعناية هذه المرّة، إذ لم يطبّقا أسلوب الانقلاب المباشر، بل أسلوب 28 شباط 1997 في تركيا ليصطادوا الشعب التونسي». ومن الواضح، بالنسبة إلى أوجال، أن الولايات المتحدة تقف وراء الانقلاب، بدليل أن الناطقة الرئاسية، جين ساكي، قالت إنه «لا يمكن وصْف ما جرى بالانقلاب»، فيما كان وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، أوّل من اتّصل بقيس سعيّد، معلناً دعمه للديموقراطية. في الجوّ نفسه، يتّهم الكاتب المقرّب من إردوغان، إبراهيم قره غول، في صحيفة «يني شفق»، كلّاً من الإمارات وفرنسا ومصر وإسرائيل والسعودية بالوقوف وراء الانقلاب، ولكن من دون أن يسمِّي الولايات المتحدة. وبحسب الكاتب بورجان توتار، في صحيفة «صباح»، فإن «النموذج الديموقراطي الأنجح في العالم العربي، تعرّض لاعتداء. ولا شكّ في أن الإمارات والسعودية وفرنسا تقف وراء الانقلاب الذي ستكون نتائجه سلبية على تركيا، عبر السعي إلى وقف تأثيرها في شرق المتوسط وشمال أفريقيا، تلك المنطقة التي تحوّلت إلى إحدى الساحات الأكثر قساوة بين تركيا وخصومها. لذا، يمكن النظر إلى ما جرى في تونس على أنه ضربة لتركيا بعدما هزّت المعادلات في شرق المتوسط عبر حملتها القبرصية التي أثارت استياء الأمم المتحدة والغرب. كما برزت الحاجة لدى هذه الدول إلى وقف تركيا في ليبيا والمنطقة عبر إطاحة العامل الإخواني في تونس». ويتابع توتار أن الوضع في شمال أفريقيا وشرق المتوسط، اليوم، يشبه «الفتوحات العثمانية في الجزائر وطرابلس الغرب وليبيا في عام 1534، والتي خلقت حينها أزمة كبيرة في الغرب، حيث شكّل العثمانيون درعاً ضدّ العالم المسيحي، وفُتحت أبواب أفريقيا أمامهم. كما كان العثمانيون عائقاً أمام استعمار الغرب لشمال أفريقيا من عام 1500 حتى عام 1900. ولو لم توقف الدولة العثمانية الحملات الصليبية في القرن الخامس عشر، لكان شمال أفريقيا، ولا سيما الجزائر وليبيا وتونس، مسيحياً كاثوليكياً». وينهي مقالته بالقول إن من أهم أهداف الانقلاب في تونس، وقف التأثير التركي. وعلى هذا الأساس، «يجب مقاربة ما يجري هناك بوعي جيوبوليتيكي وتاريخي»، بحسب الكاتب.
يتّهم المقرّبون من حزب «العدالة والتنمية» الإمارات والسعودية خصوصاً بالوقوف وراء ما جرى في تونس
ويعتبر الكاتب الإسلامي المعروف والمعارض لإردوغان، أحمد طاش غيتيرين، في صحيفة «قرار»، أن أساس المشكلة في تونس هو الاختلاف بين تركيا والغرب على السياسات المتّبعة في سوريا وليبيا وشرق المتوسط. ويقول إن الانقلاب في تونس يُفقِد تركيا إحدى قدمَي نفوذها في المنطقة، ويُدخل قدمها الأخرى في ليبيا في وضع حرج، متسائلاً عمّا ستفعله أنقرة في تونس: «هل ستكرّر موقفها المصري؟ أم تأخذ العبرة؟». ويتّهم الكاتب المقرّب من إردوغان، عبد القادر سيلفي، في صحيفة «حرييت»، الغرب بالقيام بما يناسبه في تونس، معتبراً أنه «كما في مصر، كان للإمارات دور رئيس في انقلاب تونس»، بدليل أن القائد العام السابق لشرطة دبي، ضاحي خلفان، غرّد، قبل أربعة أيّام من الانقلاب، قائلاً: «سوف يحصل انقلاب ضدّ الإخوان المسلمين». وتشير «معلومات» سيلفي إلى أن الامارات «خصّصت خمسة مليارات دولار للانقلاب في تونس». وأخيراً، يلفت محمد علي غولر، في صحيفة «جمهورييت»، إلى أن حلفاء الأمس وأعداء اليوم في تركيا عادوا ليتّفقوا على وصف ما جرى في تونس بأنه انقلاب، وأثبتوا أنهم يدافعون حتى الآن عن حركة «الإخوان المسلمين». والمقصود هنا، موقف إردوغان من جهة، وخصومه علي باباجان وأحمد داود أوغلو وضمناً عبد الله غول من جهة أخرى. وما دام الحدث التونسي مفتوحاً على مصراعيه، فإن قلق أنقرة لن يستكين لِمَا لنتائج هذا الحدث من مضاعفات كبيرة على النفوذ التركي في أكثر من منطقة.
(الاخبار)