من الواضح أنّ الصّراع المصريّ – التركيّ وصل إلى حالة من كسر العظم، وخصوصاً في ليبيا، التي لا يُستبعد أن تتحوّل إلى ساحة اشتباك بينهما.
وإذا كانت تركيا منذ الانبعاث العثماني الذي رعاه بريجنسكي واليهودي برنارد لويس، تقدّم نفسها كمخلب قطّ أطلسي حول أوراسيا وإيران، وتسعى إلى قبض الثمن، بوضع اليد على مناطق عربية واسعة، في إطار تحالفها مع المركز المالي – الإعلامي (قطر) والشارع الإخواني، وتسويق نفسها كمركز سنّي بعد تفكيك الدول والمجتمعات وإطلاق فوضى طائفية بديلة من الخطاب القومي واليساري، فإنّ الصّراع المصري – التركي من نمط العداءات الاستراتيجية التي لا ترتبط بالخيارات السياسية في البلدين، وغالباً ما يكون القوس المصري – الشامي سبباً أساسياً فيه، لما يمثله من دلالات تاريخية، كما الهلال المتوسطي (مصر وساحل سوريا الطبيعية)، الذي شكل، ولا يزال، مفتاح المفاتيح للشرق الأوسط برمته، سواء على الصعيد العربي أو الإقليمي أو الدولي.
ولذلك، فإن ما يبدو شكلاً من الاصطفافات السياسية الراهنة بين مصر وتركيا، ليس سوى تعبير عن استراتيجية ممتدة، أقلها منذ ظهور محمد علي في القرن التاسع عشر فصاعداً.
وقد شكَّلت مصر، بقيادة محمد علي، ولاحقاً بقيادة جمال عبد الناصر، جرحاً غائراً في العقل العثماني، الذي أنقذته مصر من الوهابية والأسطول اليوناني، وهزمته على مرمى أنقرة وإسطنبول، وكادت تطيح بإمبراطورية آل عثمان، لولا التواطؤ الاستعماري الأوروبي معها، كما كرّرت مصر سطوتها وتفوقها على الأتراك في عهد عبد الناصر، كما سنرى.
إلى ذلك، نعرف أنَّ مصر، منذ أن دبّ الضعف في الإمبراطورية العباسية، خضعت لأكثر من سلطنة (إلى جانب الخليفة في بغداد): السلطنة الأيوبية، ثم السلاطين المماليك البحرية ثم البرجية، وذلك قبل سقوط مصر تحت الاحتلال العثماني، بعد سقوط سوريا مباشرة في معركة مرج دابق 1516، وظلَّت كذلك حتى دخول الإمبراطورية العثمانية مرحلة الرجل المريض (الحكم غير المباشر للقناصل الأوروبيين والبنك العثماني، تحالف روتشيلد والعائلات الأوروبية)، ما أغرى فرنسا، بزعامة نابليون، لاحتلال مصر كبوابة للشرق كله، وهو ما حدث فعلاً، حيث تمكَّن من هزيمة القوات التركية والمملوكية معاً، ودخول الإسكندرية في تموز/يوليو 1798، ثم القاهرة، إلا أنَّ بريطانيا، وبغطاء من الأتراك، تحركت بسرعة، وحطَّمت الأسطول الفرنسي في معركة “أبو قير” 1798.
وقد ارتأى نابليون مواجهة الإنجليز والعثمانيين في بلاد الشام، لا في مصر، فحاصر عكا وواليها أحمد باشا الجزار، ونفَّذ مذابح في المدن الأخرى، أشهرها مذبحة حيفا، التي راح ضحيتها آلاف الجنود الأتراك، بعد فرارهم ثم استسلامهم، ثم عادت القوات الفرنسية إلى مصر، وأجهزت على ما تبقّى من القوات التركية في معركة عين شمس 1800.
ولكنَّ بريطانيا أرسلت المزيد من القوات، حتى تمكّنت من إجبار الفرنسيين على مغادرة مصر في أيلول/سبتمبر 1801، وتركت مصير القاهرة مجدداً بين الأتراك والمماليك من جهة والشارع المصري، الذي نهض بزعامة عمر مكرم، واختار ضابطاً ألبانياً سابقاً في الجيش العثماني هو محمد علي، ليكون حاكماً لمصر، وذلك في العام 1805.
ولم يتأخّر محمد علي، المتأثر بالتجربة الألبانية القومية، كثيراً، بإعلان نياته لإقامة دولة عربيَّة تكون وحدة مصر وبلاد الشام ركيزتها، ورسم استراتيجية حصيفة تحالف فيها مع السلطان العثماني لتصفية المماليك والقوة الوهابية الصاعدة في نجد، ثم تحالف مع فرنسا، لتزويده بالأسلحة الحديثة لإضعاف الدولة العثمانية نفسها، وهكذا كان:
– تصفية المماليك في مذبحة القلعة في العام 1811.
– تصفية الوهابية بدعم السلطان العثماني، وذلك على دفعتين في العامين 1811 و1818، دمّر فيهما مراكز الوهابية في العيينة والدرعية، وأرسل رؤوس قادتها في سلال إلى إسطنبول.
– كما أنقذ العثمانيين من الهجمات الوهابية التي انخرط فيها عدد من ضباط المخابرات البريطانية، أمثال “بيركهارت”، وذلك لوراثة الرجل التركي المريض. تمكَّن الأسطول المصري من هزيمة الأسطول اليوناني الذي كان يهدّد تركيا، ويدعو إلى الاستقلال، بل إن الجيش المصري دخل أثينا نفسها، لكن القوى الأوروبية سرعان ما تدخَّلت لإنقاذ اليونان من المصريين، وحشدت أسطولاً ضخماً في نفارو تمكَّن من هزيمة الأسطول المصري.
– بعد كلّ هذه الحملات، بدأ محمد علي ينفّذ مشروعه لإقامة دولة واحدة في مصر وبلاد الشام، تكون مركزاً لبقية البلاد العربية، وكان ذلك يتطلَّب هزيمة الإمبراطورية العثمانيَّة وطردها من سوريا الطبيعيّة ابتداء.
وقد تولّى ابنه إبراهيم باشا قيادة هذه الحملة التي هزمت الحاميات التركية، الواحدة بعد الأخرى، وخصوصاً الحاميات التي تحتلّ الساحل السوري الجنوبي (فلسطين الحالية). وقد أدّى سكان المنطقة وبعض حكامها دوراً مهماً في ذلك، مثل دور أهل فلسطين في طرد العثمانيين من يافا وحيفا، ودور الأمير بشير الشهابي، حاكم جبل لبنان، في معركة عكا، ومثل ذلك حدث في دمشق وبيروت وغيرهما، وهو الأمر الذي وفّر قاعدة خلفية آمنة لانطلاق القوات المصرية نحو الأراضي التركية نفسها، مروراً بديار بكر ومرعش وأضنة وجبال طوروس، حتى باتت القوات المصرية على مشارف أنقرة، بانتظار المرحلة التالية نحو إسطنبول، فيما كانت القوات التركية تولي الأدبار تاركة خلفها كمّيات كبيرة من المؤونة والسلاح، فتظاهرت السلطنة بدعوة محمد علي للحوار حول اقتسامها، بانتظار قرار أوروبي لوقف الاندفاعة المصرية، وهو الأمر الذي أدركه المصريون، فواصلوا الحملة حتى وصلوا إلى قونية، وأسروا الصدر الأعظم نفسه (رئيس الوزراء التركي)، وأجبروا السلطان على إعلان اتفاق يعترف بالسيطرة المصرية على كل ولايات بلاد الشام، وكذلك ولاية أضنة، وذلك في نيسان/أبريل 1835، في ما عرف باتفاقية كوتاهية.
لكنَّ الأتراك، ما إن وصلتهم المساعدات من روسيا القيصرية وألمانيا القيصرية، بما فيها الأسلحة والضباط، حتى شنوا هجوماً على القوات المصرية، انتهى بهزيمة الأتراك في معركة نصيب في حزيران/يونيو 1839، وتقدَّم الجيش المصري إلى تخوم إسطنبول (الأستانة)، وهو الأمر الَّذي عجَّل في تحرك الدول الأوروبية الاستعمارية، وخصوصاً بريطانيا وروسيا القيصرية والنمسا، التي اجتمعت في لندن في تموز/يوليو 1840، وقرَّرت حشد كلّ قواتها لحماية العثمانيين وإخراج القوات المصرية من الأراضي التركية، ومن سوريا الطبيعية، وحصرها في مصر.
وبعد سلسلة من المعارك البرية والبحرية، تخلّلها قصف الأساطيل الأوروبية للقلاع البحرية على امتداد ساحل سوريا الطبيعة من جونية إلى بيروت، انسحبت القوات المصرية. وقد أظهرت وثائق حديثة أنَّ الاستعمار الأوروبي هدَّد محمد علي بغزو مصر نفسها، وإسقاط حكمه فيها، إذا لم يسحب قواته من محيط العاصمة التركية وبلاد الشام.
وستمرّ عقود طويلة، بل قرن كامل، قبل أن تعود العلاقات المصرية – التركية إلى التوتر، مع بدايات انبعاث الفكر العثماني على يد الاستخبارات الأميركية التي تبنّت جماعة منشقّة من حزب الشعب الأتاتوركي، هي جماعة الحزب الديموقراطي بزعامة عدنان مندريس، الذي فتح تركيا للقواعد العسكرية الأميركية، وخصوصاً أنجرليك، وللبنك الدولي وسياسات الخصخصة، والأخطر تبنّيه لما يعرف بحلف بغداد 1955.
وقد اصطدمت هذه السياسات في البداية مع القيادة الناصرية الصاعدة في مصر، إذ أظهرت الوثائق الخاصَّة بأزمة السويس 1956 (تأميم عبد الناصر لشركة قناة السويس البريطانية) أنَّ الجناح العثماني الجديد المذكور بقيادة مندريس، شارك في مؤتمر سيفر (1956)، إلى جانب الثلاثي الاستعماري (بريطانيا وفرنسا والعدو الصهيوني)، وممثلين عن الجماعات الإسلامية، تحضيراً للعدوان الثلاثي.
وقد هزم حلف سيفر بالكامل، كما هو معروف، وشكَّل بداية انهيار الانبعاث العثماني وسقوط مندريس، سلف إردوغان، وإعدامه. كما كان من تداعيات ذلك انبعاث فكرة وحدة القوس المصري – الشامي بقيادة عبد الناصر 1958، بما يذكّر أيضاً بمحاولة محمد علي قبل قرن وأكثر، لطرد الأتراك من سوريا وتوحيدها مع مصر.
المصدر: رأي اليوم