– يؤخذ دائماً على الذين يقفون في خندق المواجهة مع السياسات الأميركية أنهم يقومون بشيطنة النموذج الأميركي، بمثل ما يفعل المعجبون بأميركا والذين يراهنون عليها عندما يتناولون خصومها، ولذلك تتعرض كل التحليلات التي يقدمها ويتبناها مناهضو السياسات الأميركية والتي تقول إن أميركا تغيرت، وأنها نموذج يتهاوى، وأن تفوقها الأخلاقي الذي كان يتباهى به مريدوها لم يعد قائماً، للطعن والانتقاد بصفتها تحليلات وتوصيفات مبنية على الرغبات لا على الوقائع. وكذلك اتهام كل توصيف للتراجع الأميركي بتسويق التمنيات على حساب الواقع، ووصف كل استنتاج يتحدث عن سقوط نموذج الديمقراطية والاندماج الاجتماعي الأميركي، وخطر انهيار الوحدة الوطنية وخطر سقوط التنافس الديمقراطي كإطار للنظام السياسي الأميركي، بصفتها أحلام وردية لخصوم أميركا، لكن عندما يأتي هذا التوصيف من معجب كان ولا يزال يأمل بأن أميركا هي قبلته السياسية، ومثاله الأعلى لما يجب أن تأخذه بلادنا، ومثال للسياسة الدولية وركن يمكن الاعتماد عليه ويجب الاعتماد عليه، فالأمر بذاته حدث يستحق التوقف.
– الكاتب اللبناني سام منسى يكتب في صحيفة الشرق الأوسط انطباعاته عن زيارته إلى أميركا بعد غياب سنوات «ولأول مرة منذ أكثر من 20 سنة على انتمائي إلى هذا البلد برغبة وتصميم يسكنني انطباع قد يخالفني فيه البعض، بأن أشياء كثيرة تغيرت فيه «، ومهم اسم الكاتب واسم الصحيفة لتظهير مصدر الشهادة، التي ورد فيها «أول ما يلفتك هو تراجع الخدمات أو الفاعلية في تلبيتها بسرعة ودقة وهي خاصية لطالما ميزت أميركا، إلى ارتفاع ملحوظ بالأسعار جعلت كلفة المعيشة باهظة، بعدما عرفت على مدى عقود باعتدالها مقارنة بالدول الأوروبية. وتبدأ مؤشرات هذا التراجع من المطار مع خدمة تأجير السيارات مثلاً، لتجد موظفاً واحداً يهتم بجميع المسافرين وما طلبته غير متوفر وتنتظر ساعة ونيف ليجهزوا لك بديلاً. وتصل إلى الفندق حيث لا خدمة غرف ولا مطاعم بمفهوم المطعم، بل مقصفاً تنتظر فيه بالدور لتحصل على طعام بأطباق بلاستيكية! وينسحب ذلك على الخدمات في المصارف ومؤسسات الدولة».
– ينتقل الكاتب المغرم بالسياسات والنموذج الأميركيين إلى انطباعاته عن مصير النموذج الأميركي فيقول «الأمر الآخر الذي فوجئت به هو غلبة الهويات الفرعية على الهوية الوطنية تحت مظلة تخوف البيض من «اسمرار أميركا»، وتخوف السود كما اللاتينيين والآسيويين من انتفاخ مؤيدي «تفوق البيض». ناهيك برهاب المسيحيين من المسلمين وشعور هؤلاء بأنهم عرضة للتمييز.
– أما الشعبوية التي انتعشت في أكثر من دولة في العالم الغربي، فلم تسلم منها أميركا باعتبارها محصنة كما اعتقدنا. وعلى الرغم من أنها بلد المهاجرين إنما تميزت بأنها صهرت القادمين بتحلقهم حول العلم الأميركي، وفي الوقت نفسه تركت لهم الحرية كاملة لشؤون عيشهم وممارسة عاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم. إنما اليوم بتنا تشعر بأن هناك هويات فرعية تحاول القفز فوق الهوية الأميركية الجامعة»، وإلى الانقسام العمودي للمجتمع انقسام عمودي آخر للبيئة السياسية والحزبية، يقول فيها المحب والمعجب: «فوجئت بعد غياب بحدة الانقسام الحاصل في الولايات المتحدة وبطبيعته المتشددة المستجدة التي بدأت مع الانتخابات الرئاسية الأخيرة وما رافقها من رفض لنتائجها وتشكيك بنزاهتها. هذا الانقسام بات يطال القواعد الرئيسية التي قام عليها نظام القيم الأميركي الذي أرسته أميركا نفسها عبر النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. الأميركيون هذه الأيام منقسمون إزاء نظام القيم هذا، وبات قسم لا يستهان به منهم لا يؤمنون بالمبادئ التي يقوم عليها، ما ترجم خلافاً حول مفاهيم عدة كالحرية والعدالة والمساواة في الداخل».
– يأتي دور السياسة الخارجية ومصير سياسات التدخل والردع، والرهان على مكانة أميركا الدولية لمواجهة خصومها ومساندة حلفائها، فيقول الكاتب اللبناني في صحيفة «الشرق الأوسط» السعودية من واشنطن: «سقوط سياسة الردع ترافق مع سياسة القيادة من الخلف، ثم سياسة الانسحاب لتأتي بعدها سياسة التخلي، حتى قيل إن الولايات المتحدة لا تنتصر إلا على حلفائها. لن نعدد أخطاء أميركا الكبرى في الإقليم بل خطاياها، إن في تعاطيها مع الأصدقاء والأعداء، لكن يكفي ذكر إغلاق عينيها عما جرى في سوريا ويجري في اليمن ولبنان، وانسحابها من أفغانستان وتقديم البلاد على طبق من ذهب إلى «طالبان»، كما قدمت العراق سابقاً إلى إيران، وطريقة إدارتها لمفاوضات الملف النووي الإيراني الذي أقل ما يقال فيها إنها قصيرة النظر تعيد ارتكاب الأخطاء «الأوبامية» نفسها مع اختلاف بسيط؛ أن أوباما لم يشارك حلفاءه في المنطقة بمآلات المفاوضات الأولى، أما إدارة جو بايدن فهي تشركهم إنما عبر الضغط عليهم للقبول بالعودة إلى الاتفاق من دون معالجة جدية لهواجسهم».
– يختم الكاتب إحباطه بمعادلة يستوحيها من جداريات البيت الأبيض، فيقول: «أكثر ما نخشاه هو تحول القوى العظمى الأميركية إلى صليب أحمر أو منظمة غوث، تقتصر مساهماتها في العالم على مد المحتاج بالمساعدات، وفي رمزية تدل على ذلك، فإن الرئيس جو بايدن استبدل صورة للرئيس فرنكلين روزفلت في البيت الأبيض بصورة للرئيس جورج واشنطن، في دلالة على تغليبه نظرة روزفلت في أهمية البعد الاجتماعي بإدارة الشؤون الداخلية وأولوياته على أدوار الولايات المتحدة الأخرى كدولة عظمى. علّنا نتعظ!».
– كلام يشبه ما كنا نقوله مراراً ويصنف في دائرة شيطنة النموذج الأميركي، والسعي لإحباط المراهنين عليها والمعجبين بنموذجها، وليس لنا اليوم إلا أن نقول عسى أن يتعظ المغرومون والمعجبون بأميركا وأن يستفيق المراهنون عليها!