– بعدما صار نص الاتفاق حول حقول الغاز علنياً لم يعد مقبولاً سماع تعليقات لا تستند إلى قراءة النص. وأول ما يلفت من يقرأ النص أنه يكتشف بأنه لا يقرأ اتفاقاً، ولا تفاهماً، ولا معاهدة، على قاعدة أن لبنان رفض أي صيغة توحي بالاعتراف بأن كيان الاحتلال دولة، ورفض أي صيغة يمكن أن تعتبر انتقالاً من جانبه في توصيف العلاقة بالكيان من حال الهدنة إلى حال السلام، فهو اتفاق لبنانيّ أميركيّ، واتفاق مواز إسرائيلي أميركي. كان اتفاق الهدنة عام 1949 أبعد مدى منه في الإيحاء بالاعتراف، لجهة كونه اتفاقاً موقعاً بين الطرفين اللبناني والإسرائيلي، حيث كتب نص الاتفاقية بصفتها تفاهماً عسكرياً بين ضباط لبنانيين واسرائيليين يمثل كل منهما حكومته، ووقع جنباً الى جنب على وثيقة واحدة كل من المقدّم مردخاي ماكليف بالنيابة عن «حكومة إسرائيل» والى جانبه وقع المقدّم توفيق سالم بالنيابة عن حكومة لبنان؛ بينما ورد في النص الأميركي للاتفاق حول حقول الغاز، أن كلاً من الطرفين اللبناني والإسرائيلي في حال موافقته على المقترح الأميركي سيقوم بتوقيع رسالة منفصلة يرسلها للجانب الأميركي وفق نموذج مرفق، وسيقوم بتوقيع مراسلة للأمم المتحدة حول الإحداثيات المعتمدة لتقاسم الحقول وفق نموذج مرفق، دون وجود أي وثيقة مشتركة يوقعها الطرفان، أو مراسلة مباشرة بينهما.
– الحذر من أي إيحاء بفرضية التطبيع واضح بقوة في النص، ورفض التطبيع هو مطلب لبناني بالتأكيد والحذر معاكس للرغبتين الأميركيّة والإسرائيلية اللتين تعملان ليل نهار على مزيد من حلقات التطبيع في المنطقة، فكل النص المطوّل، والاستطرادات الواردة فيه، حول كيفية حصول الجانب الإسرائيلي على عائدات من حصة الشركة المشغلة في حقل قانا، مقابل تسليمه بالحقل كاملاً لحساب لبنان، تظهر بقوة أن لبنان نجح بفرض رؤيته وحصل على الاستجابة اللازمة، لمنع أي شكل من التعامل المالي أو الشراكة التجارية مع الكيان، بل إن ترك أمر أي حقول متداخلة يمكن اكتشافها لتفاهمات لاحقة مشابهة لتفاهم حقل قانا، تأكيد على سقوط فكرة التشارك بتلزيم شركة واحدة تتولى تقاسم العائدات مع الكيان، وهكذا يستطيع لبنان أن يفاخر بأنه المفاوض العربي الوحيد الذي توصل الى تفاهم مع كيان الاحتلال، دون اعتراف ودون معاهدة سلام، وإنهاء حال الحرب، وقطعاً دون أي شكل من أشكال التطبيع.
– في الاتفاق غير المباشر، وليس فقط التفاوض غير المباشر، بل يمكن القول براحة وثقة في الاتفاق اللبناني الأميركي حول حقول الغاز في المتوسط، وقبل الدخول في مناقشة الشق الاقتصادي الذي يدور حوله الكثير من النقاش، يجب أن ينتبه من يقرأ الاتفاق اللبناني الأميركي، أن في النص تأكيداً على إمكانية إعادة النظر بالإحداثيات المعتمدة عبر التوافق بنتيجة تفاوض مشابه، ومن يريد تعديل الاحداثيات بالقوة طبعاً لا يحتاج الى التفاوض، لكننا نتحدث عن اتفاق تفاوضي يتضمن إقراراً بإمكانية التعديل عبر التفاوض، وهذا أمر مهم للذين يقولون بأن الاتفاق مجحف بحق لبنان، والأهم في البعد السيادي المتعلق بالحدود البحرية التي يميزها الاتفاق عن تقاسم الحقوق الاقتصادية، يقول الاتفاق بالنص «بهدف عدم المساس بوضع الحدود البريّة في المستقبل، فإنّه من المتوقَّع قيام الجهتين بترسيم الحدود البحرية الواقعة على الجانب المواجِه للبرّ من أقصى نقطة شرقي خط الحدود البحرية في سياق ترسيم الحدود البريّة أو في الوقت المناسب بعد ترسيم الحدود البريّة. وإلى أن يحين الوقت الذي تُحدَّد فيه تلك المنطقة، تتّفق الجهتان على إبقاء الوضع الراهن بالقرب من الشاطئ على ما هو عليه، بما في ذلك على طول خط العوّامات البحرية الحالي وعلى النحو المحدَّد بواسطته، على الرغم من المواقف القانونية المختلفة للطرفين بشأن هذه المنطقة التي لا تزال غير محدَّدة». وهذا يعني بأن منطقة الطفافات اعتبرت غير محددة وان ترسيم الحدود البحرية في هذه المنطقة سيتم لاحقاً، وساء بالتوازي مع إنهاء النزاعات العالقة حول الحدود البرية أو بمعزل عنها، وليس معيباً ان نشهد للمفاوض اللبناني، أن النص في أغلبه مكرس لتلبية طلبات لبنانية مصاغة بطريقة تلبي الضمانات القانونية للبنان، كي لا يتحول الأمر الواقع الذي فرضه الاحتلال عام 2000 من طرف واحد إلى حاصل مكرس ومشرعن قانوناً. وهذا واضح في كل فقرات الاتفاق، وساء تجاه التقاسم للحقول والمناطق أو في كيفية استثمار حقل قانا وعدم تأثير الاتفاق الجانبي بين الكيان والمشغل على حق لبنان الاستثماري، وكذلك في صيغة إبرام الاتفاق، والحفاظ على صيغته اتفاقاً غير مباشر نجم عن تفاوض غير مباشر، بصيغة اتفاق أميركي لبناني اتفاق أميركي إسرائيلي يعتمد نصاً موحداً.
– في تقاسم الحقول والخطوط، نجح لبنان بتوظيف الخط 29 لرفع حصته من خط هوف المقترح سابقاً الى الخط 23 وصولاً للخط 23 مضافاً إليه كامل حقل قانا، ولولا تبني الخط 29 والسير بتوقيع مرسوم اعتماده رسمياً الى ما قبل الخطوة النهائية المتمثلة بتوقيع رئيس الجمهورية وإيداع التعديل لدى الأمم المتحدة، لما نال لبنان حقل قانا فوق الخط 23، ولما تمكنت المقاومة من التهديد بمنع الاستخراج من كاريش بصفته حقلاً متنازعاً عليه باعتباره يقع ضمن الخط 29، الذي بقي لبنان متمسكاً به إلى حين إبرام الاتفاق، أي حتى تاريخه أيضاً إذا تعثر الإبرام في أي مرحلة من مراحله، وهذا لا يلغي حق المتمسكين بالخط 29 إن كانوا صادقين بمتابعة معركة تحصيل المزيد، بثلاثة شروط، الأول أن يجيبوا عن سؤال هل يعتبرون أنه اذا كان الخيار بين عدم التوصل الى اتفاق وهذا الاتفاق، فهل يختارون اللااتفاق. والثاني طالما انهم لا يعترفون للمقاومة بدورها وأهميته في إنشاء التوازن الذي جعل التوصل للاتفاق طريقاً وحيداً لتفادي الحرب، فهل يختارون ترك كيان الاحتلال يستثمر حقلي كاريش وقانا بينما لبنان يحمل وصفة المعلاق، أي مرسوم الخط 29، والذئب يلتهم المعلاق، حتى لا يبقى منه شيء، والثالث طالما أنهم في أغلبهم وبينهم او معهم نواب يؤيدونهم، هل يجرؤون على ترجمة موقفهم بجعل التراجع عن الاتفاق شرطاً لتسمية أي مرشح رئاسي، والا هل يقبلون على أنفسهم أن يكون دورهم، وهم في أغلبهم أصدقاء للأميركي كدر الذين خرجوا بعد حرب تموز ينكرون النصر بصفتهم طابور التعويض المعنوي للإسرائيلي عن هزيمته؟
– من المهم الانتباه أيضاً، رغم التسابق السياسي المخجل على ادعاء أحادية صناعة النصر، أن ما جرى تحوّل كبير أبعد من لبنان، فالأميركي الذي نظر للإسرائيلي عام 2006 كقوة قادرة على صناعة الحرب لمخاض شرق أوسط جديد ينطلق من سحق المقاومة في لبنان عسكرياً، باعتبار المقاومة في لبنان فائض قوة دول المقاومة في المنطقة، هو الأميركي الذي يأتي اليوم لدفع ثمن تجنيب «اسرائيل» حرباً مع هذه المقاومة نفسها، وأن الأميركي الذي أنفق المليارات من الدولارات خلال عشرين عاماً منذ التحرير عام 2000، ليقول للبنانيين أن المقاومة سبب أزماتهم وانهيار اقتصادهم، يأتي شريكاً في معادلة تقول، لولا هذه المقاومة لما كان للبنان ما يصفه الأميركي اليوم بطريق الازدهار مسقطاً مقولة جيفري فيلتمان في الخطاب التوجيهي لـ 17 تشرين، بمعادلة المقاومة طريق الفقر المؤكد والعداء لها طريق الازدهار المتحمل، لتصير المقاومة طريق الازدهار الوحيد، للخروج من الفقر الذي كان ثمرة الخطة الأميركية لإسقاط لبنان. وهنا من المهم الانتباه أن الأميركي الذي كان يتبنى نظرية التجويع بهدف التركيع، كما وصف وزير المالية الفرنسي خطة إسقاط لبنان أملاً بإسقاط حزب الله، هو الأميركي نفسه الذي يتحدث اليوم عن الازدهار يصنع الاستقرار، وهي النظرية ذاتها التي رفعها يوم ذهب لتوقيع الاتفاق النووي مع إيران عام 2015، قبل ان ينسحب منها أملاً بالتجويع طريقاً للتركيع، وما دام الأميركي قد سلك هذا الطريق الذي يمثل انقلاباً استراتيجياً فرضته قوة المقاومة، فماذا عن مستقبل مبرر البقاء الأميركي في سورية، بل وفي العراق، وماذا عن الاتفاق النووي مع ايران؟ وبالمناسبة سؤال على الهامش، هل انتبه البعض أن الاتفاق الذي يتهمون المقاومة بتغطية التنازلات فيه، يتم بينما المؤشرات التفاوضية الأميركية حول الاتفاق النوويّ مع ايران كلها سلبية؟
– تخبزوا بالافراح، فاقدون للنص، فاقدون للمنطق، فاقدون للغة، والتاريخ يقول كل القوة بلا نص ولغة ومنطق هي فائض قوة بلا قيمة مضافة سريع التآكل، فكيف وأنتم بلا حول ولا قوة، بلا بصر ولا بصيرة!
المصدر: البناء اللبنانية