– لا ينكر المحللون الاستراتيجيون الأميركيون دور الانفتاح الأميركي على الصين قبل نصف قرن، وفقاً للصفقة التي أبرمها هنري كيسنجر كمستشار للأمن القومي الأميركي لحكم الرئيس ريتشارد نيكسون، مع رئيس وزراء الصين يومها شي أون لاي، في توفير البيئة اللازمة للتفرّغ لمواجهة الاتحاد السوفياتي، وصولاً للنجاح بتفكيكه عام 1990. وكانت المعادلة التي أقامها كيسنجر وشكلت أساس عقيدته للأمن القومي بعد حرب فييتنام، وتابعها من بعده زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي في حكم الرئيس رونالد ريغان بالتعاون مع رئيس المخابرات يومها جورج بوش الأب قبل أن يصبح نائباً للرئيس فرئيساً، يواصل السياسات ذاتها، هي معادلة قدمي النسر، وتقوم على إغراء الصين بفك الحصار المالي والغذائي عنها، لرد خطر المجاعة التي تهدد دائماً تكاثرها السكاني الضخم، وما يعنيه ذلك من غض نظر عما تصفه الوكالات الأميركية المعنية بانتهاكات صينية للمعايير الأميركية لحقوق الإنسان والتجارة العالمية وحقوق الملكية الفكرية، مقابل امتناع الصيني عن وضع سياسة خارجية نشطة تخرج عن مجرد تثبيت المواقف على طريقة رفع العتب، وخصوصا لما يتصل بملفات المواجهة بين واشنطن وموسكو، على قاعدة اعتبار الاتحاد السوفياتي عدواً أول لأميركا، ومنافساً ايديولوجياً للصين، وبالتوازي تقوم عقيدة كيسنجر على خوض مواجهة ضارية مع الاتحاد السوفياتي محورها سباق تسلّح يقود موسكو نحو الإفلاس، ويدفع بنظام أمانها الاجتماعي الى الانهيار.
– بعد تحقيق ما رسمته عقيدة كيسنجر من أهداف قبل ثلاثة عقود، أدارت واشنطن ظهرها للصين وروسيا، متفرغة لملء الفراغ الجيواستراتيجي الناتج عن انهيار الاتحاد السوفياتي، ففي العقد الأول كان اهتمامها على حسم المساحة الأوروبية التي خرجت منها موسكو، وبعد العام 2000 توجّهت واشنطن نحو آسيا لملء الفراغات الناشئة في مناطق الصراع، وشكلت أفغانستان والعراق الوجهة الطبيعية، وفقاً لعقيدة أخرى وضعها بريجنسكي بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، هي معادلة فتحات السدود، وعنوانها نصب الحواجز وإزالة الحواجز، ترتكز عملياً على ثنائية أوكرانيا وأفغانستان، حيث أمن روسيا يحسم في أوكرانيا، لدرجة التداخل الجغرافي والسكاني بينها وبين روسيا، وأمن آسيا يحسم في أفغانستان لموقعها الجغرافي كحاجز برّي يمنع التلاقي الجغرافي بين عمالقة آسيا، روسيا والصين وإيران، ومنذ ذلك التاريخ والتعثر يرافق السياسات الأميركية، وصولاً لضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وانسحاب القوات الأميركية من أفغانستان.
– خلال العقود الثلاثة الماضية كانت النهضة المتحررة من أعباء المنافسة الافتراضيّة بين موسكو وبكين، تسجل تقدماً حثيثاً، وتتحوّل معها كل منهما إلى دولة قوية ومقتدرة، وتشكل كل منهما مصدراً لتلبية حاجات الآخر، فروسيا البلد الأول في العالم في تصدير النفط والغاز معاً، والصين هي البلد الأول في العالم في الاستهلاك الصناعي للنفط والغاز، وبعد التكامل السياسي والعسكري تأتي الخطوة الأخيرة بإعلان التكامل الاقتصادي، لتشكل الضربة القاضية للأحلام الأميركية باستعادة فرص الحياة لمشروع الهيمنة والأحادية، وليس غريباً الآن أن تنتشر في واشنطن، نظريات الإدانة لمعادلات كيسنجر وبريجنسكي، على قاعدة الاعتراف بالفشل، لكن بما هو أخطر، وهو استحالة ترميم المشهد وتعديل الاتجاه، وفيما تبدو السياسات الأميركية انفعاليّة وأقرب للعشوائية، تبدو كل من روسيا والصين وهما تعملان وفقاً لخطة وروزنامة، لترتسم معامل العالم الجديد، تحت عنوان التعدديّة وسقوط الهيمنة، ونهوض الدولة الوطنيّة التي جعلتها منظومة العولمة الأميركية الفكرية والسياسية هدفاً يجب إسقاطه.