– لا يمكن ربط الموقف من قراءة الانهيار الأميركي والهزيمة المدوية والفشل الاستراتيجي الكبير للحملة الإمبراطورية العسكرية التي بدأت قبل عشرين عاماً باحتلال أفغانستان، بالموقف من حصيلة المشهد الأفغاني، الذي تحتاج مقاربته للمراقبة والحذر والتنبه للتسرع، فكل إسقاط لأي فشل أفغاني على معادلة الهزيمة الأميركية وتصويرها نصراً أميركياً تعبير عن قصور فكري وسياسي، وكل محاولة لتصوير الهزيمة الأميركية تسليماً ضمنياً بنجاح النموذج الأفغاني علامة عمى ألوان وضعف في الرؤية، فالهزيمة الأميركية شيء ونجاح حركة طالبان باستيعاب الحقائق والوقائع التي تشكل بيئة ضرورية للنجاح داخلياً وإقليمياً شيء آخر، وكثيرة هي المرات التي يقدم لنا فيها التاريخ هزيمة لمشروع لا تنتهي بنصر لمشروع مقابل، لأنّ المشروع الذي كانت أمامه فرصة النصر لم يكن جاهزاً على الصعيد الذاتي لتوفير شروط النضج اللازم للمضي نحو نصره الكامل.
– معيار النجاح والفشل الأميركي مختلف جذرياً عن معايير النجاح والفشل الأفغاني، تماماً كما الحكم على الهزيمة «الإسرائيلية» في غزة التي توجت انسحاباً منذ 2005، والحكم على تجربة حركة حماس وحدود نجاحها بإدارة قطاع غزة، أمران منفصلان، ولا يحتاج الأمر نجاح حماس لإثبات الهزيمة «الإسرائيلية»، ولا يمكن تصوير كل إخفاق أو عجز لحماس نسفاً لمعادلة الهزيمة «الإسرائيلية» أو تصويرها دلالة على أن «إسرائيل» انسحبت ضمن خطة شكل آخر من الانتصار يترجمه هذا العجز والإخفاق، فهذا يسمى تلاعباً بالتاريخ وعبثاً بثوابت صناعة الأحداث وقراءة السياسة بعيون العلم والوقائع، لا حسابات الرغبات والمخاوف، تماماً كما يحاول البعض من الآن الاستدلال على ضعف عناصر النضوج الذاتي لتجربة طالبان لتصوير الهزيمة الأميركية نصراً.
– معيار النجاح والفشل للاحتلال، أي احتلال بالإجابة عن سؤال حول الأهداف التي جاء لتحقيقها، والاستثمار الذي وظفه من مال وأرواح وسنوات، ومقارنة كلّ ذلك بالحصيلة التي انتهى إليها، وكل انسحاب للاحتلال من دون خليفة محلية تتابع الأهداف، وتحفظ مهابة النصر، وتباهي بعلاقتها بالمحتل، وتكرس في السياسة والاقتصاد والأمن الأهداف التي جاء من أجلها، هو انسحاب قهري فرضه الفشل، وكلما كان الانسحاب فوضوياً، ومصحوباً بالتخلي عن المتعاملين والعملاء، ترافقه صورة انكسار المهابة، والتحدث عن المجهول، وغياب الثقة بالغد، كانت الهزيمة مدوية، مهما حاول الكتبة والكسبة تزيين الهزيمة.
– أفغانستان كانت فاتحة الحملة التي بدأت قبل عشرين عاماً، وهي اليوم باتت بوضوح لا التباس فيه، الفشل الاستراتيجي الكبير، لكنها ليست الفشل الوحيد في عشرين عاماً، فيمكن أن نحصي على الأقل عشرين فشلاً توّجتها الهزيمة المدوية التي حملها المشهد المروع في مطار كابول، ففي العراق فشل الأميركيون في تحقيق أهداف الاحتلال الأول ثم فشلوا في تحقيق الاحتلال الثاني بذريعة قتال «داعش» وهم كتبوا العشرات من الوثائق التي تعترف بهذه الحصيلة، وفي سورية فشل الأميركيون في تحقيق هدف الحرب التي نجحوا في جمع أكثر من مئة دولة لخوضها بأشكال مختلفة، ويتنافس المسؤولون السابقون عن ملف سورية بتوصيف وجوه هذا الفشل، وفي إيران فشل الأميركيون في سياسة الضغوط القصوى لفرض تنازلات إيرانية في الملف النووي أو ملف الصواريخ أو الملفات الإقليمية، وفي الربيع العربي فشل الأميركيون في استيلاد أنظمة حكم تحقق مشروع الهمينة وتحميه، والمثال الليبي شاهد حي، وفي اليمن فشل الأميركيون في هزيمة حركة «أنصار الله»، وقد صار أمن الخليج وأمن الطاقة بيدها، وفي الرهان على نهاية روسيا بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي فشل الأميركيون وهم يعترفون اليوم بصعود روسيا كشريك كامل في الملفات الدولية وكقوة عسكرية متفوقة، وفي السعي الاستباقي لنهوض الصين الاقتصادي يعترف الأميركيون بالفشل وبكون الصين اليوم تتقدم بسرعة نحو بناء حقائق المعادلات الاقتصادية الجديدة في العالم، وفي النموذج الديمقراطي تلطخ المثال الأميركي بعار الهجوم على الكونغرس وتضعضع ركائز الصورة التي رسموها عن ديمقراطيتهم، أما عن حقوق الإنسان فيكفي مشهد مطار كابول مثالاً لمقدار الالتزام الأميركي بالمعايير التي يدعون الأخيرين إليها وهم يعرضون حياة آلاف للخطر ويتركونهم لمصيرهم، وذنبهم الوحيد أنهم وثقوا بالمثال الأميركي والوعود الأميركية، وفي مواجهة كورونا فشل الأميركيون بتقديم المثال على التصدي للتفشي الجرثومي ولا زالوا رغم كونهم في الصف الثاني لأحجام الدول من حيث السكان يتصدرون رأس الصفحة الأولى من حيث عدد الإصابات والوفيات.
– فشل الأميركيون في استعادة صورة القوة لحلف الأطلسي الذي يشكل مشهد أفغانستان لطخة على جبينه ستبقى حاضرة، وفشلوا في تفعيل قمة السبعة الذين استنهضتهم لمنافسة الصين، بعدما تقدمت الصين نحو إيران وسورية غير آبهة لمشاريعهم التي بقيت حبراً على ورق، وفشل الأميركيون في ما وصفوه بالحفاظ على التفوق العسكري لكيان الاحتلال بعدما تحطمت هذه الصورة في معركة سيف القدس، وفشلوا في تسويق حل سياسي للقضية الفلسطينية، فأسقط الفلسطينيون صفقة القرن بعدما أسقط «الإسرائيليون» حل الدولتين، وفشلوا في إنعاش حلف الاعتدال العربي الذي كان سيد القرار في المنطقة في تسعينيات القرن الماضي وانتقلت دفة القرار من أيديه الخالية من أي إنجاز إلى محور المقاومة الذي تحول سريعاً إلى الجهة المقابلة لكيان الاحتلال في التوازن العسكري والسياسي المحيط بالقضية الفلسطينية الحاكم للمنطقة وتطوراتها، وفشلوا في جعل الإرهاب التكفيري جيشاً بديلاً يعوض هزائمهم ويقاتل بالنيابة عنهم ويخوض حروبهم، بعدما وجه له محور المقاومة ضربات قاصمة، وفشل الأميركيون في إطلاق مشروع العثمانية الجديدة بقيادة تركيا كعنوان مواز لمثال الاتحاد الأوروبي في إدارة مشروع الهيمنة على آسيا ومحاصرة روسيا والصين وإيران، وفشل الأميركيون في الحفاظ على الحلف الذي جمعوه في حرب أفغانستان ثم في حرب سورية ثم فشلوا في مصالحة حلفائهم الذين تفرقت ريحهم وصار كل منهم يغني على ليلاه، لكنهم يحصدون اليوم ثمار الفشل الكبير في البلد الصغير لبنان، الذي كسر مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي بشرت به وزيرة خارجيتهم كونداليسا رايس، عندما وقفت لهم المقاومة بالمرصاد عام 2006، وتراكمت منذ ذلك التاريخ عمليات النهوض في ضفة والفشل في ضفة، ودائماً كان الفشل في الضفة الأميركية، هذا غيض من فيض، فهل يكفي عشرون فشلاً في عشرين عاماً للحديث عن دولة فاشلة، وأفول المشروع الأميركي لحكم العالم الذي انطلق مع سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي، والتبشير بنهاية التاريخ ، والتاريخ يكتب من جديد بحبر جديد، ويستعيد مشاهد قديمة من سايغون إلى كابول، ولم يتنه، فهل هي بداية نهاية تاريخ ما لدولة ما فقط؟