عندما نجد أنفسنا في مواجهة أعداء شرسين، لا معنى للقيم المدنية والآداب الإنسانية عندهم خارج ديارهم، قد عرفوا بوحشية لا يختلف عليها إثنان، ومن قرأ تاريخهم وعايش غلواءهم، وعاين سقوطهم القيمي والأخلاقي، فإنه سوف لن يتردد في نسبة أي جريمة تقع على الأرض إليهم.
جريمة أخرى، تضاف إلى سلسلة الجرائم الأمريكية الصهيونية، التي ارتكبت بحق لبنان أرضا وشعبا ومبادئ، ليست أقل بشاعة من سابقاتها، ولكنها بمقارنة معها، عسر علينا هضمها، وقد بلغت حجم الكارثة، بكل مقاييسها المادية، فتعمد ترك مواد مصادرة شديدة الإنفجار، لمدة زادت على 6 سنوات، في مكانها دون أدنى اعتبار، إهمال متعمد دفع إليه أعداء لبنان، للجوء إليها وقت الحاجة، وقد حان وقتها .
والحادث الذي حصل بميناء بيروت، هو بحجم العدوان المدبر، الذي أعد بخبث ودهاء ليوم الحادثة، فمن غض الطرف عن وجود كميات ضخمة من المواد شديدة الإنفجار، في وضع تخزيني مهمل، وفي مكان لا يجب ان تبقى فيه، إلى هذا المدى الطويل من الزمن
بيروت المنكوبة ما بعد الإنفجار الرهيب، كانت تنبض حياة وتتقد حيوية، بل وتتحدى أعداءها بصمودها الأسطوري، فتزداد تألقا ويزداد أعداؤها حنقا وحقدا، وفجأة حدث ما لم يكن في الحسبان، وإذا بقلب بيروت يتحول في لمح البصر، إلى أكداس مبعثرة من كل ما حواه الميناء، في صورة مفزعة أكثر إيلاما من برلين، بعد إعلان سقوطها في الحرب الكونية الثانية، بل إن المشهد أكثر شبها بهيروشيما وناكازاكي، بعد جريمة القنبلتين النوويتين الأمريكيتين، انفجار من شدته وارتفاع حرارته انصهر الحديد، وذاب الإسمنت المسلح، وتطاير رجال الإطفاء في الجو، وكانوا أول ضحايا الحادث، وانطمر من انطمر تحت ركام المباني، على شعاع التأثر الكامل بالإنفجار، وفي ذلك المدى، غادرت الحياة عروس لبنان، بعدما ذهبت حلتها وتهاوت بنيتها، بسبب من؟ وإهمال من؟ وتقصير من؟ حادث قد يراه البعض عفويا وغير مقصود، لكنه في أساسه جريمة فظيعة، اشترك فيها أكثر من طرف، ليس بمقدورنا ولا بمقدور اخوتنا في لبنان، تقدير حجم خسائرها لا ماديا ولا معنويا، في ظرف حساس جدا، فرض على سوريا ولبنان، لتركيعهما معا أمام غطرسة أمريكية، تخطت كل حدود المعقول، لأجل تحقيق أمن الكيان الصهيوني، وتلبية نزواته في الهيمنة على الشرق الأوسط بأسره، ودمار الدول المحيطة بفلسطين وخصوصا منها تلك التي عبرت عن رفضها، لصفقة القرن الأمريكية، أصبح اليوم واقعا نراه يتحقق شيئا فشيئا.
إشاعة الفوضى وعرقلة نمو شعوب المنطقة، خصوصا تلك التي احتضنت مقاومة المشروع الصهيو أمركي، هي أدوات هدم وانهاك جهود القوى الخيرة، التي رفضت الانصياع وراء وعود، لا تحقق شيئا من كرامة بلدانها، ومن موبقات أعداء الانسانية وحريتها وكرامتها، إنهم أصبحوا يعتمدون على غيرهم في تنفيذ مخططاتهم، فيكفي أن يجدوا عميلا ليقوم بما يستنكفونه بأيديهم، وهذا ما حصل بميناء بيروت، تمهيدا وإهمالا وتنفيذا.
لم أجد تبريرا واحدا يسمح لمسؤولين متعاقبين، على ضبط تخزين مواد الأمونيا، شديدة الإنفجار في الميناء، وتقديم تقارير على حالتها، وعدم إيلاء أي اهتمام بذلك، من طرف سلطة الإشراف، أمر يدعو إلى الحيرة حقا، وثغرة متعمدة استغلها الأعداء بسهولة، وكانت النتيجة كارثية، وأعتقد يقينا، أن الميناء لو كان تحت تصرف ورقابة المقاومة، لما وقع الإنفجار، واذكر هنا أحد خطابات سيد المقاومة عندما هدد بالرد على اعتداءات الجيش الصهيوني بقصف حيفا وميناءها الذي يحتوي خزانات الأمونيا.
أهلنا في بيروت خصوصا ولبنان عموما، عاشوا محن ونكبات عديدة، ومع ذلك أصروا على أن يبقوا واقفين صامدين شامخين، في وجه كل بلوى اصابتهم، وخرجوا منها جميعا بثبات رجال، لم تؤثر فيهم نوائب الدهر، وفي هذه البلوى سيخرجون منها أشد من ذي قبل، رباطة جأش وقوة عزم، كزبر الحديد، ومن فرح بمصابهم اليوم سيحزن قريبا، ذلك أن الرجال يصنعون التاريخ، والبغايا تصنع الخطيئة والعار.
ما يتهدد المقاومة عدو خارجي وآخر داخلي، وفي نظر كل عاقل أن العدو الداخلي أشد خطرا من الخارجي، لسبب بسيط هو أن العدو الخارجي معروف، وقد لا تعرف تخطيطه ولكن تتحسب له وتحتاط، أما العدو الداخلي فهو شريك في المكان ونحتاج إلى جهود كبيرة، لكشفه وإخراجه من محل تخفيه، متلبسا بجرمه، وغالبا من يتمكن من تنفيذ ما أوكل إليه من أعمال إرهابية.
هذا العدو موجود في شخص المسؤول، المتقاعس عن أداء مهامه، وفي شخص الحاكم والوزير، الذي يستجيب لأوامر أعداء بلده، وفي شخص العميل الذي رضي أن يكون في صف العدو، ضد مصالح وطنه، وليس الأمر متعلقا بلبنان وحده، وينسحب على بقية الدول، لكن لبنان المستهدف أكثر من غيره في هذا المجال، والتركيز عليه، منذ أن قام رجاله بتأسيس جبهة مقاومة أعدائه، وقدم التضحيات الجسام في مواجهة مؤامراته، حتى بلغ مستوى الردع، بمعادلة القوة مقابل القوة، وبه تغيرت عقلية العربي المنهزم أمام الجيش الذي لا يقهر، إلى عقلية ولى زمن الهزائم وحل زمن الإنتصارات، وما انتصارات رجال الله في 2000 و 2006 ، إلا دليل على تغير العقلية العربية والإسلامية في مواجهة الكيان الصهيوني، والتعامل معه بندية والتفوق عليه .
ما حصل ببيروت درس، يجب على الجميع أخذه بعين الإعتبار، والاحتراز منه بالكفاءات، وحسن أداء الوظائف، وخدمة الاوطان بإخلاص ووفاء تامين، إن التهاون والتقصير في محاسبة المتسببين في الكارثة، هو خيانة للوطن وتواطئ مع المتورطين، ولن تمر جريمة من دون عقاب مستحق، ليكون عبرة لكل مقصر او خائن