مخطئ من قال إنّ الدين الإسلامي الذي جاء مختتما سلسلة رسالات سبقته في الأزمنة والأماكن، مختلف عنها تماما في أساسات أحكامه وقيمه، وقوانينه التي أنزلها الله، ليحكم بها البشر فيما بينهم بالقسط والعدل وعدم الظلم، وترْك كلّ مساوئ الأخلاق، في معاملات الناس بينهم، فقضية الحسن والقبح المؤطرة لكل تلك المعاملات، مسألة عقلية مبدئية أساسية، في جميع ما نزل من وحي، وعليها دارت المصلحة والمفسدة في كل معاملة، ما جمع بينها توحيد صحيح لخالق الكون والحياة، ونبذ لكل ما من شأنه أن يحرّف الإنسان عن فطرته.
ولم يكن الإسلام مناقضا لأساسات الأحكام التي سبقته في الديانات السابقة، بل جاء داعما لها، مثبتا بقاءها، على أنها من سنن الله التي يجب أن تستمرّ، بلا تبديل ولا تغيير، من شأنه أن يحدث تناقضا صارخا بينها، كتحليل حرام أو تحريم حلال، وهذا مما لم ينصّ عليه قرآن كريم ولا سنّة مطهّرة، وهذه ضابطة أحكمت طوقها على الأحكام في مبدئيّاتها واستثناءاتها الضرورية، وحتى لا يلتبس على أحد قوله تعالى : (ومصدّقا لما بين يديّ من التوراة ولأحلّ لكم بعض الذي حُرّم عليكم) (1) أن مقصد الآية هو تحليل حرام، فقد جاء في تفسيرها: (أن هذه الآية جاءت على لسان المسيح عليه السلام، لبيان أهداف النبوّة، حيث يقول جئت أؤكد لكم التوراة، وأُثبت أصولها ومبادئها، كما جئت لأرفع الحظر الذي فُرض عليكم، بالنسبة لبعض الأشياء في دين موسى، بسبب عصيانكم، مثل منع لحم الأباعر، وبعض شحوم الحيوانات، وبعض الطيور والأسماك، واستشهد صاحب التفسير المعاصر بالآية: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدّهم عن سبيل الله كثيرا) (2) وهي محظورات أُحلّت لهم مرة أخرى، ببركة ظهور المسيح عليه السلام.(3)
هذا من جهة التشريعات العامة، التي تظل دوما خاضعة لقانون المصلحة والمفسدة، التي بنيت عليها الأحكام الإلهية، وصاحبها جل شأنه أعلم بها في تمييزها، وهو صاحب الشأن كلّه خلْقا وتشريعا، وله أن يمحو ما يشاء ويثبت، له الحكم وله الأمر، ولا معقّب لحكمه، ومن هذا الأساس التشريعي، يمكننا أن نمرّ إلى مسألة أساءت للدين الإسلامي أيّما إساءة، استغلها العدو والمغفّلون من النّاس، الذين اعتبروا الأحداث التاريخية التي جدّت في أول الإسلام، والتي عرّفوها بالفتح الإسلامي بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، دليلا على جواز شنّ الحرب على من لم يحارب المسلمين، وبالتالي فإن شنّ أيّ عدوان على هؤلاء كان سِمَةً ملحَقة به.
على أنه بقدر ما مضى عليه هؤلاء بقناعاتهم، التي جاءت مبرّرا أعطت شرعيّة لتلك الأحداث، فقد جاء في كتاب الله ما أثبت خلاف ذلك تماما، وأنّ أساس الدين عدم الإكراه فيه، قال تعالى: ( لا إكراه في الدين قد تبيّن الرّشد من الغيّ)(4) وأعطى حرّية الإختيار في الدّخول فيه الإنتماء إليه من عدمه: ( وقل الحقُّ من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)(5) ففي الآية الأولى جاء في تفسيرها:
(لمّا كان الدين يهتمّ بروح الإنسان وفكره، ومبني على أساس من الإيمان واليقين، فليس له إلا طريق المنطق والإستدلال، وجملة: (لا إكراه في الدين)، في الواقع إشارة إلى هذا المعنى، مضافا إلى أن المستفاد من شأن نزول هذه الآية، وأن بعض الجهلاء طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوم بتغيير عقائد الناس بالإكراه والجبر، فجاءت الآية جوابا لهؤلاء، وأن الدين ليس من الأمور التي تُفرض بالإكراه والإجبار، وخاصة مع كل تلك الدلائل الواضحة والمعجزات البينة، التي أوضحت طريق الحق من طريق الباطل، فلا حاجة لأمثال هذه الأمور.
وهذه الآية رد حاسم على الذين يتّهمون الإسلام بأنه توسّل أحيانا بالقوة، وبحد السيف والقدرة العسكرية في تقدمه وانتشاره، وعندما نرى أن الإسلام لم يسوّغ التوسل بالقوة والإكراه في حمل الوالد لولده على تغيير عقيدته الدينية، فإن واجب الآخرين بهذا الشأن يكون واضحا، إذ لو كان حمْلُ الناس على تغيير أديانهم بالقوة والإكراه جائزا في الإسلام، لكان الأولى أن يجيز للأب ذلك، لحمل ابنه على تغيير دينه، في حين أنه لم يعطه مثل هذا الحق، ومن هنا يتضح أن هذه الآية لا تنحصر بأهل الكتاب فقط، كما ظن ذلك بعض المفسرين، وكذلك لم ينْسخ حكم هذه الآية، كما ذهب إلى ذلك آخرون، بل أنه حكم سارٍ وعامٌّ ومطابقٌ للمنطق والعقل. (6) وتتفق الآيتان على مبدئية حرّية اختيار الدين وعدم الإكراه فيه وهو مبدأ قرآني إسلامي عام، ليس لأحد تجاوزه إلى حالة من الاكراه التي جدّت في زمن تسلّط فيه المؤلفة قلوبهم على مقاليد الحكم ليتصرّفوا فيه وفي الأمّة الاسلامية كما اشتهت انفسهم بالظلم والعدوان.
لذلك، ظهر أنّ العدوانية التي نسبت للإسلام، من خلال ما وصلنا من تأريخ للقرنين الأول والثاني والثالث وما تلاهما من قرون شهدت أعمالا عسكرية باسم الإسلام، ليست من الدّين في شيء، فهي على طرفي نقيض منه، متنافرة مع آدابه وأحكامه، قد استغلّها أعداء الإسلام لينسِبوا إليه موقفا خارجا عنه، فيظهروه بمظهر مناقض لحرّية الإختيار، مستعملا أساليب الغلبة والقهر للأمم والشعوب التي غزتها قواته العسكرية، وارتكبت فيها شتى أنواع التجاوزات والجرائم، التي يعاقب عليها الإسلام في أحكامه الجزائية، بعقوبات عادلة متفاوتة، بحسب الجرم الذي أرتُكِب.
ومن هذه المحصّلة، يجِبُ الإلتفات إلى ما شوّه به المؤرخون صفحات مدوّناتهم، من سلسلة هجمات عدوانية، قامت بها عساكر ألّف جموعها حكام، لم يكن همّهم الإنتصار للدين الإسلامي، بقدر ما كان همّهم ما ستغنمه الحملات المتكررة على أفريقية، وغيرها من المناطق التي لم تكن خاضعة لهؤلاء الحكام، الذين كان آخر همّهم الدّعوة للإسلام، وأياديهم صَفِرة منه آدابا وأحكاما، وما شكّلته سيرتهم من تجاوزات خطيرة برهنت عن حقيقة أنفسهم المريضة، التي لم تتردّد في ما كانت تراه يعيق تعاظم سلطانها وجبروت أركانها.
ولم يكن الرّدّ على العدوان إذا استهدف المسلمين، إلا إجازة لدفْعه عنهم، وقاية لعدم تكراره، وعدم تجاوزه إلى أكثر من ذلك، (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)(7) والرّد على العدوان ضرورة اقتضتها عزّة الدين، لتكون ضمانا لأمن أهله، ويجب أن يقف بعد استيفاء القصاص من المعتدين، وظهور رغبة السّلم والصلح الحقيقيين من الطرف المقابل، وبهذا يسقط أيّ إدّعاء مفاده أن الإسلام دين، تأسّست حروبه على العدوان، يكفي أن نستعرض ما جاء في كتاب الله سبحانه، وما سجّلته سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، في تعامله مع الأعداء في غزواته الدّفاعية، حيث لم يكن عدوانيا طيلة حياته الشريفة، وما لفقه عديمو الرأي من أكاذيب ساقطة بالمفعول القرآني ولا قيمة لها، فلينظر عاقل لدينه وما طرأ عليه من تحريف، لمنهجيّة تعامليّة واضحة، في مسالة الحرب والسّلم، ومقتضى تطابقها مع كتاب الله سبحانه.
المصادر
1 – سورة آل عمران الآية 50
2 – سورة النساء الآية 160
3 – تفسير الأمثل الشيخ نصار مكارم الشيرازي ج 2ص287
4 – سورة البقرة الآية256
5 – سورة الكهف الآية29
6 – تفسير الأمثل ج2ص92
7 – سورة البقرة الآية 194