بقلم: محمد الرصافي المقداد |
ولد الشهيد السيد محمد باقر الصّدر (1 مارس 1935 / 9 أبريل 1980) ونشأ في عائلة عراقية عريقة في العلم والشرف، نبغ منذ صغره في تحصيل العلوم الاسلامية، ونال درجة الاجتهاد وهو في سن العشرين من عمره الشريف، بدأ بالتأليف وهو لا يزال يافعا (فدك في التاريخ)، قد استقصى فيه الحجة ودحض مناقضاتها في مسالة تاريخية، تعلقت بمظلومية جدته السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، من أجل انارة حقها ورفع المظلمة عنها.
ولأنّ ما قدّمه الشهيد السيد محمد باقر الصدر للأمة الاسلامية، كان بحجم شخصيته المتميّزة والفريدة، فإن طلائع الحركات الاسلامية بطلبتها ومثقفيها، في مشارق البلاد الاسلامية ومغاربها وفي المهجر، لن ينسوا أبدا ما قدمه لهم من فكر اسلامي اصيل، من خلال ما وصلهم من مؤلفاته وكتبه، كـ (اقتصادنا) و(فلسفتنا) و(البنك اللا ربوي في الاسلام) و(الاسلام يقود الحياة ) و( الأسس المنطقية للاستقراء) و(خلافة الانسان وشهادة الانبياء) و( بحث حول الولاية) و(بحث حول المهدي) (اهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف) ( الفتاوى الواضحة) و (غاية الفكر في علم الاصول) ومحاضراته الاكاديمية في التفسير الموضوعي للقران الكريم، وهي كتب مكنتهم من اكتساح الجامعات، ورفع راية التوجه الاسلامي فيها، وتشكيل تجمعات نخب علمية، تدعو الى اقامة حكم الله في الارض، بما وفّره الشهيد من نظرية اسلامية متكاملة المعالم، لما يتضمنه الاسلام من امكانيات وادوار، اعادت له حضوره الحيّ في المجتمعات، وقوة تمركزه في مواطن العلم والمعرفة، بعد ما كاد أن يندثر.
شخص وتاريخ السيد محمد باقر الصدر، لا يختلف فيهما اثنان، من حيث القيمة العليمة الواسعة، والإيمان العميق الكامل بتكليفه، كعالم فقيه مجتهد، وهو أحد أبرز رواد الاسلام الاصيل في القرن الماضي، عايش مراحل الثورة الاسلامية، منذ انطلاقتها الاولى سنة 1963، وكان من بين العلماء العراقيين المقربين من الامام الخميني، قائد الثورة الاسلامية، خلال فترة منفاه بالنجف الاشرف، والتي استمرت ثلاثة عشرة سنة ونيف.
وقد تأثر بشخصيته الفذة أيما تأثر، وكان من المناصرين لمشروعه العظيم في اقامة الحكومة الإسلامية، ومقاومة الظلم والظالمين، وعدم الركون اليهم، ولا السكوت على ما يرتكبونه بحق دين الله وعباده -عكس ما ظهر من سيرة غيره ممن آثر الصمت خيّر الانطواء على نفسه – بلغ به أن قال كلمته الشهيرة، التي وجهها الى الشعب العراقي: (ذوبوا في الخميني كما ذاب هو في الاسلام.)
كان الشهيد متواصلا مع قادة الثورة الاسلامية في ايران وفي مقدمتهم الامام الخميني، ولما تحقق انتصار الشعب الايراني في 11/2/1979 توجّه الى الشعب العراقي ببيان قال فيه:
(أكتب إليكم في هذه اللحظات العظيمة، التي حقّق فيها الإسلام نصراً حاسما وفريداً في تاريخنا الحديث، على يد الشعب الإيراني المسلم، وبقيادة الإمام الخميني دام ظله، وتعاضد سائر القوى الخيّرة والعلماء الأعلام، وإذا بالحلم يصبح حقيقة، وإذا بالأمل يتحقق، وإذا بالأفكار تنطلق بركاناً على الظالمين، لتجسّد وتقيم دولة الحق والإسلام على الأرض، وإذا بالإسلام الذي حبسه الظالمون والمستعمرون في قمقم، يكسر القمقم بسواعد إيرانيّة فتيّة، لا ترهب الموت، ولم يثن عزيمتها إرهاب الطواغيت، ثم ينطلق من القمقم ليزلزل الأرض تحت أقدام كل الظالمين، ويبعث في نفوس المسلمين أملا جديدا بغد أفضل.
إن الواجب على كلّ واحد منكم، وعلى كلّ فرد قدّر له حظّه السعيد، أن يعيش في كنف هذه التجربة الإسلامية الرائدة، أن يبذل كل طاقاته، وكلّ ما لديه من إمكانات وخدمات، ويضع ذلك كله في خدمة التجربة، فلا توقف في البذل والبناء (لأجل الإسلام)، ولا حدّ للبذل، والقضية ترتفع رايتها بقوّة الإسلام، وعمليّة البناء الجديد بحاجة إلى طاقات كلّ فرد، مهما كانت ضئيلة. ويجب أن يكون واضحاً -أيضاً- أنّ مرجعيّة السيّد الخميني دام ظله، التي جسدت آمال الإسلام في إيران، اليوم لا بدّ من الالتفاف حولها، والإخلاص لها، وحماية مصالحها، والذوبان في وجودها العظيم، بقدر ذوبانها في هدفها العظيم، وليست المرجعيّة الصالحة شخصاً، وإنما هي هدف وطريق، وكل مرجعيّة حققت ذلك الهدف والطريق، فهي المرجعية الصالحة التي يجب العمل لها بكل الإخلاص، والميدان المرجعي أو الساحة المرجعية في إيران، يجب الابتعاد بها عن أيّ شيء، من شأنه أن يُضعف، أو لا يساهم في الحفاظ على المرجعيّة الرشيدة القائدة.)
استشعر النظام البعثي خطورة السيد محمد باقر الصدر على وجوده، خصوصا بعد أن افتى بحرمة الانتماء لحزب البعث، حتى لو كان الانتماء صورياً، وأعلن ذلك على رؤوس الأشهاد، ولم يكن أحد غيره ليجرؤ على ذلك، خصوصا وحزب البعث يمرّ حينها بفترة قوة وتمكّن تام في العراق، فتملك النظام خوف شديد من ان تنتقل شرارة الثورة الاسلامية من إيران بعد نجاحها الى العراق، خصوصا وأن الشهيد الصدر يمتلك رصيدا جماهيريا هاما، يمكنه من قيادتهم بمشروع ولاية الفقيه، الذي آمن به ووضع نفسه تحت تصرفه.
حاول النظام أن يستميل الشهيد بالترغيب والترهيب، فلم يفلح في شيء من ذلك، حيث لم يجد أي تجاوب منه، فقام بفرض الاقامة الجبرية عليه، ووقع عزله عن جماهيره في مرحلة أولى، أصدر الشهيد السعيد أثناءها بيانا، وجهه الى الشعب العراقي (يا أخوتي يا أبنائي من أبناء الموصل والبصرة من أبناء بغداد وكربلاء والنجف من أبناء سامراء والكاظمية من أبناء العمارة والكوت والسليمانية من أبناء العراق في كل مكان، إني أعاهدكم بأني لكم جميعاً، ومن أجلكم جميعا، وأنكم جميعاً هدفي في الحاضر والمستقبل، فلتتوحد كلمتكم، ولتتلاحم صفوفكم تحت راية الإسلام، ومن أجل إنقاذ العراق من كابوس هذه الفئة المتسلطة، وبناء عراق حر كريم، تغمره عدالة الإسلام، وتسوده كرامة الإنسان، ويشعر فيه المواطنون جميعاً على اختلاف قومياتهم ومذاهبهم بأنهم أخوة، يساهمون جميعاً في قيادة بلدهم وبناء وطنهم، وتحقيق مثلهم الإسلامية العليا، المستمدة من رسالتنا الإسلامية، وفجر تاريخنا العظيم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته).
ولما صدر القرار باعتقاله وتصفيته بعد نحو 9 اشهر من الحصار الشديد، ويبدو من شهادة من قام بدفن الشهيد أنه تعرض الى تعذيب شديد بملاحظة آثاره واضحة على وجهه.
لئن كانت شهادة السيد محمد باقر الصدر امنيته التي انتظرها وجهز نفسه لها كأحسن ما يكون الجهاز، فإنها تعتبر خسارة فادحة للامة الاسلامية، حيث حرمت من فيض علومه ومعارفه الاسلامية، نسأل الله سبحانه أن يعلي درجته ويجزيه عنا خير الجزاء.