قال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين.” (1)
فيما مضى من الزمن الطيب، كنا نقيم الانظمة على اساس مبادئها وولاءاتها، وكان العالم كله مقسم الى معسكرين، واحد غربي وآخر شرقي، وبينهما دول العالم الثالث، من دول عدم الانحياز، التي تظاهر أغلبها بأنها لا تتبع هذا ولا ذاك، لكنها واقعا منحازة، وسياساتها دالّة عليها، وحال العرب والمسلمين وقتها، متراوح بين ثوريين تقدّميين أو عملاء، ومن ادّعى الحياد – وذلك مجرد ادعاء – رضي بأن يكون خاذلا لدول، تناضل من أجل حريتها وكرامتها، ولم يكن للإسلام كنظام حكم، مكان على الأرض في ذلك الوقت، لذلك فإن العالم الاسلامي كان خارج إطار الاعتبار، سوى ما يراه المعسكر الغربي، من كون تلك الدول أسواقا لمنتجاته، وحافظة لمصالحها فيها، وتصريفا لأهدافه وغياته في نشر ثقافته والدّعاية لأكاذيبه، التي صدّقتها شرائح من مجتمعاتنا، فتبنّت فصل الدين عن السياسة، وتحوّلت بسرعة عقيدة راسخة في عقول أغلب المسلمين، ومؤمنين بها ومستعدين للدفاع عنها.
وجاءت الثورة الاسلامية في إيران لتفرض معادلة الإسلام السياسي، وتقدم نموذجا معتبرا في الوسط الاسلامي وفي العالم، وتظهره في صورة فريدة، لم تكن في حسبان، حتى أولئك الذين قالوا بأنهم يسعون الى إقامة حكم الله في الأرض من بقية الفرق الإسلامية، وفق السياق التاريخي، دون أدنى مراجعة لنقائصه، والحكومة الإسلامية كما قدّمها الامام الخميني لشعبه وللمسلمين، تعتمد أساسا على مبدأ الشورى الاسلامي، وهي في مجالسها ومؤسساتها، تخضع لاختيار الشعب لأعضائها، في عدد من الدورات الانتخابية، ورغم العقوبات والحصار والعدوان الظالم الذي تعرض له إيران، مستهدفا نظامها الاسلامي، استطاع أن يصمد ويتقوّى، ويثبت للعالم أنه يملك مخزونا شعبيا غير قابل للكسر ولا الانهاء.
الغرب الذي انتهى تقريبا من امكانية قيام الاسلام المحمدي الأصيل، تفاجأ بظهور إيران بالمظهر الذي أساءه، وقلب حساباته رأسا على عقب، فتمثّلت لديه خطرا حقيقيا داهما، من شأنه أن يعصف بكل مخططات دوله الخبيثة، نظاما لم يخفي أهدافه منذ البداية، في نشر قيم ومبادئ الثورة الاسلامية، التي تعتمد أساسا على مسألتين هامّتين – فقدها المسلمون منذ زمن بعيد – هما الولاية والبراءة، في أن يتولى المسلمون أولياء الله، ويكونون معهم في السراء والضراء، وأن يتبرؤوا من أعدائه، ويعملون بالتالي على قطع أياديهم من البلاد الاسلامية، ركن اسلامي أهملته أغلب الشعوب الاسلامية وحكوماتها، بل ذهبت الى مخالفة القرآن تماما، في موالاة أعداء دينهم، والاستجابة الى طلبتهم المخالفة له، كتشريع المثلية الجنسية، والدّعوة الى تحقيق المساواة في الميراث بين الذكر والانثى، اجتراء على الله في أحكامه، ومحاولة لهدمها حكما بعد آخر، ولا حياة لمن تنادي من أتباعه.
المستهدف اليوم بلا أدنى شك، هو النظام الاسلامي في ايران، ومشاريع تحريره لأشقائه من الشعوب الإسلامية، وفي مقدّمتها القضية الفلسطينية، التي تعتبر المحور الأساس، والركيزة التي تعتمد عليها في استنهاضها لها، من أجل استعادة حقوق الشعب الفلسطيني المسلوبة، أمام مشهد من عالم، فقد القدرة على التمييز بين ما هو حق وما هو باطل، وفيما كان لبنان يبحث عمن يضمد جراحه العميقة، بعد مؤامرة تفجير ميناء عاصمته بيروت، وفيما كان الفلسطينيون في غزة، يبحثون عن ركن شديد، يقيهم من الغارات الغادرة لطائرات الكيان الصهيوني الغاصب، ويفك عنهم الحصار الخانق المضروب عليهم منذ 14 عاما، على مرأى ومسمع من أشقائهم المصريين، وفيما كان اليمنيون على مدى 6 سنوات ونصف، يعيشون تحت قصف طائرات العدوان السعودي الاماراتي، يتناهى الينا خبر بائس المحتوى والمصدر، لم يكن مفاجئا لنا تماما من طرف، عرفه العالم بخبث موروث، عن الأعراب الذين وصفهم الله في محكم كتابه، بانهم أشد كفرا ونفاقا، ظاهره تضحية مثيرة للسخرية، ومضمونه خيانة عارية لا يسترها شيء مما كان، حافظا لما خفي من موبقات حاكم، وضعوا نصب اعينهم هدف تدمير أشقائهم، من الشعوب التي أبصرت حديثا نور الحريّة، وهم في هذا الوقت الحساس، بأمس الحاجة الى من يسندهم حتى بالمواساة.
وعندما تكشف صحيفة معاريف الصهيونية، عن العلاقات بين حكام أبو ظبي والكيان الصهيوني، وتقول أن عمرها يزيد على العقدين من الزمن، فذلك دليل أقرّ به أهله، دون الحاجة منا الى بحث وتقص بشأنه، بل إن العلاقات المذكورة تتجاوز ذلك بكثير، وأقول إن دولة الامارات التي قامت في 2 ديسمبر سنة 1971، كان على أساس الاعتراف التدريجي بالكيان الصهيوني، والمخطط له مرحلة بعد أخرى، متدرّجا من العلاقات السرّية الى العلنية، وهذا الأمر منطبق على بقية دول الخليج دون استثناء، وسيأتي الدور عليها الواحدة بعد الأخرى، ومن أثنى على موقف الإمارات اليوم، سوف يكون غدا صاحب الثناء والتقدير، اعتقادا منهم بأنها التجارة المربحة، والوسيلة الأقصر إلى قلب ترامب ربّ الاعراب، بعد اندثار هبل وطي عقيدة اللات والعزى.
ودون الحاجة الى من ينبش لنا في ذاكرة تاريخ العلاقات المشبوهة، بين الدول العربية والاسلامية العميلة للغرب، فإنّ تاريخ تركيا في هذا المجال، مشحون بالاعتراف والتطبيع مع الكيان الصهيوني، الذي بلغ مستوى مشاركة الجيش التركي في مناورات مشتركة معه، وفتح المجال الجوي التركي لطائراته الحربية، تفاجئنا الدبلوماسية التركية رئيسا ووزارة خارجية، بعجيبة استنكار قرار حاكم ابو ظبي، التطبيع الكامل مع الكيان الصهيوني، فقد قال أردوغان: ” يمكن أن نتخذ خطوات لتعليق العلاقات الدبلوماسية مع إدارة أبو ظبي، أو سحب سفيرنا”. مشددا على “أن تركيا تقف إلى جانب الشعب الفلسطيني.” ومضيفا “لم ولن نترك فلسطين لقمة سائغة لأحد أبدا”. (2)
وجاء في بيان وزارة الخارجية التركية اليوم الجمعة، إن تاريخ وضمير شعوب المنطقة، لن ينسى ولن يغفر السلوك المنافق لدولة الإمارات العربية، في إبرام اتفاق مع إسرائيل.” وتابعت “ان الإمارات تحاول تقديم هذا الاتفاق، كنوع من التضحية بالنفس من أجل فلسطين، في الوقت الذي تخون فيه القضية الفلسطينية لخدمة مصالحها.” وأضافت: ” لن ينسى التاريخ وضمير شعوب المنطقة هذا التصرف المنافق، ولن يغفروا لها أبدا.”(3)
مواقف تركية تبدو مناصرة لفلسطين وشعبها، لكنها مقارنة بما هي عليه سياساتها، من علاقات وتطبيع مع الكيان الصهيوني، تبدو متناقضة تماما، وتسويق دعائي يسعى الى اخفاء جانب العلاقات التركية مع الكيان الصهيوني الذي يرفرف علمه في سماء عاصمتهم أنقرة منذ 1949، وحجم المبادلات التجارية التي بلغت 6 مليار دولار في السنة،(4) يغطي حقيقة السياسة التركية المتآمرة.
الرئيس الأمريكي ترامب الذي بلغ الضغط عليه أوجه، وهو مقبل على فترة رئاسية ثانية، لو تمكن من الفوز في انتخاباتها خريف هذه السنة، وهو يرى حظوظه تتضاءل، بعد فشل إدراته في التعاطي مع جائحة كورونا، وسوء ادارته في التعاطي مع ملفات خارجية كبرى كالملف النووي الإيراني، والعلاقات مع الصين وروسيا وكوريا الشمالية، والاجراء الاماراتي الذي جاء من وحيه قطعا، بعد اعلانه السخيف، بأن نتنياهو وبن زايد سيوقعان على اتفاق “سلام تاريخي” لتطبيع العلاقات، وسيوقعانه في البيت الأبيض بعد ثلاثة أسابيع، مشيرا إلى أن دولاً أخرى في الشرق الأوسط، تريد إبرام اتفاقيات سلام مع “إسرائيل”، حسب تعبيره.(5)
ورقة توت أخرى كانت تغطي عورات الحركات والمنظمات التي تورّطت مع كل من تركيا والامارات وبقية طابور الأعراب، سقطت فلم يعد يخفي ما وراءها شيء، اكّدت لنا منذ فترة أن العزة لا تُنال بمقاربة أبواب العمالة والذل، وأن خط المقاومة لا يلتقي بخط العمالة، وأن القدس وفلسطين لا يحررها سوى الشرفاء الأمة، وقد اصبحوا معروفين لا تشوبهم شائبة.
ما ننتظره من الرئيس قيس سعيد، الوفاء داخليا وخارجيا، بما أقرّه بعظمة لسانه، من ان التطبيع خيانة عظمى، أن يعبّر عن موقفه من قرار الامارات ودون مجاملة او خوف من توتّر العلاقات، يجسّد الوفاء لأشقائنا المقاومين الفلسطينيين، واذا قصرت ايدينا عن مساعدتهم عسكريا، فلتكن مواقفنا الأخرى معهم قلبا وقالبا.
المصادر:
1 – سورة المائدة الآية 151
2 – اتفاق التطبيع.. أردوغان: نبحث تجميد العلاقات أو سحب السفير من الإمارات وإيران تعتبره طعنة في الظهر
3 – بماذا توعد أردوغان الامارات ردا على اعلانها التطبيع مع اسرائيل؟ وأنقرة تهاجم أبوظبي بشدة: التاريخ لن يغفر نفاقكم.
4 – معاريف: حجم التبادل التجاري بين تركيا واسرائيل 6 مليارات دولار
5 – ترامب: بن زايد ونتنياهو سيوقعان بعد ثلاثة أسابيع على الاتفاق في البيت الأبيض