بقلم: السيد شبل |
صحيح أن فنزويلا مطالبة بأن تُطلق قطار التصنيع ضمن خطة تنمية شاملة تأخرت كثيرًا، لكي تحقق مزيدا من الاعتماد على الذات، وتقلل من وارداتها، وتصير عائدات النفط في خدمة تطوير الصناعة والزراعة، لا هدفها فقط توفير العملة الصعبة للاستيراد.. لكن يظل ما تواجهه فنزويلا اليوم صعب ومختلف عن النصائح السهلة، التي لا تدرك تمامًا معنى أن تكون محاصرًا ومُهددًا في كل لحظة بغزو عسكري من الويلات المتحدة القريبة، ويتم إزعاجك واستنزافك عبر جهات متربصة في الداخل (هذه الجهات هي التي دبّرت محاولة الانقلاب على هوجو شافيز في 2002، وقادت المؤامرة التخريبية في 2017، وبالحالتين تلقت ملايين الدولارات من واشنطن). لو دققت النظر إلى فنزويلا وتجربتها ستخلص إلى أن ما يعيب نظام الحكم هو أنه لم يُخضع ويوجّه القطاع الخاص عمليًا وبجديّة نحو خطة تنمية شاملة يحملها القطاع العام، وبالتالي تم تفويت الفرصة لبناء قلاع صناعية وتجارية مستقلة، واستمر الاعتماد على عوائد للنفط، وتُرك المجال للنشاط الكمبرادوري والاحتكاري، وأنه لم يبادر لتطهير جهاز الدولة (بما فيه الشرطة) من عناصر فاسدة غرستها أنظمة الحكم السابقة على شافيز، وهذه العناصر تتآمر على التجربة دوما وإلى اليوم وتتصل بالخارج، كما أنه لم يتجه بجديّة لعزل هذه الشرائح اليمينيّة المستعدة للتخابر مع الخارج، لكن ما يقال الآن في الصحافة الغربية عن أسباب المشكلات، هو العكس من ذلك تمامًا، حيث يتم شيطنة هذه التجربة التي بدأها شافيز مع الألفية الجديدة، واتهامها، لأنها (أمّمت النفط وأعادت توزيع الثورة الآتية منه، وكثّفت من سيادة المجتمع على ثرواته عبر حكومته، وحاصرت القطاع الخاص الكمبرادوري، وإن جزئيا) بما يعني أن الصحافة الغربية تعكس الآية بالكلية، وهذا طبيعي لأنها تتلقى تمويلها من هذه الشركات الغربية الكبرى التي تأممت مصالحها، وخسرت ثروات كانت تنهبها.. لكن حتى فيما يتعلق بلوم النظام على عدم فغل ما يلزم، فيجب فهم وإدارك وتقدير أمورًا مثل: طبيعة الظرف الدولي اليوم، وضعف الجبهة الأممية التي يمكن أن تسند في تصعيد من هذا النوع، والموقع الجغرافي القريب من الناهب الأمريكي، والدول الجارة العميلة ككولومبيا إلى جانب طابور من الدول التي تملكها إليزابيث الثانية أو الأراضي والمقاطعات والجزر التي هي من ضمن أقاليم ما وراء البحار الفرنسية والبريطانية والهولندية، وكذلك الحصار، وعدم توافر المساحة الزمنية للتطوير. يجب أن نفهم أن فنزويلا، ليست دولة ذات إنتاج نفطي ضخم كالسعودية، حتى ولو قيل الكثير عن احتياطات مرتفعة، فهي لا تزال تحت الأرض ولم يتم ترجمتها إلى براميل وصادرات، وهذا ليس بعيدًا عن المؤامرة على البلد التي لا تريد الاستسلام للشركات النفطية الغربية.. على أية حال، فبحسب معدل إنتاج النفط في 2016، فإن السعودية قد أنتجت 10,2مليون برميل يوميًا، وانتجت روسيا حوالي 10 مليون برميل، في مقابل فنزويلا قد أنتجت 2,5 مليون برميل فقط. على العموم فإن فنزويلا منذ 2014 تعاني بسبب مبادرة السعودية لزيادة إنتاجها اليومي من النفط، بالشكل الذي أدى إلى انخفاض سعر النفط عالميًا، والنفط كأي سلعة يتحدد سعره بحسب العرض والطلب، وعندما يزيد المعروض فبالتبعية ينخفض السعر.. وهذا ما عانت منه فنزويلا. السعودية كانت تستهدف من وراء زيادة المعروض، وبالتالي خفض الأسعار، أمرين: الأول، إشعار الشركات الأمريكية أن نفطها أرخص من النفط الصخري، فتحافظ على سوقها، الثاني، ضرب الاقتصاد الإيراني الذي يعتمد أيضًا على تصدير النفط (وتعتمد إيران كثيرا على الصين كمستورد)، وكذلك إزعاج الروس، ووارد جدًا أنها كانت تستهدف الإضرار بفنزويلا أيضًا. نشرت الصحافة أيامها، أي في خريف 2014، ما يفيد بأن السعودية، وبكل بساطة، قررت استخدام سلاح النفط، ولكن ضد روسيا وايران بالدرجة الاولى، وبتنسيق كامل مع الولايات لمتحدة الامريكية بهدف تركيع هاتين الدولتين بسبب تدخل الاولى عسكريا في اوكرانيا، ودعم الثانية للنظام السوري وتمسكها بحقها المشروع في تخصيب اليورانيوم ورفضها تقديم تنازلات في مفاوضات فيينا الاسبوع الماضي حول طموحاتها ومنشآتها النووية (من مقال لعبد الباري عطوان). أما الباحث والصحفي كاليب موبين في موقع “مينت برس”، فقد ألقى باللوم على الولايات المتحدة في انهيار أسعار النفط في عام 2014 ، مشيرًا إلى أن المملكة العربية السعودية حليفة الولايات المتحدة غمرت السوق بالنفط الرخيص من أجل إضعاف الدول المعارضة لـ”وول ستريت ولندن وتل أبيب”، وهي الدول التي تتركز اقتصاداتها حول صادرات النفط والغاز الطبيعي (المملوكة للدولة) ، بما في ذلك فنزويلا والإكوادور وروسيا والبرازيل وإيران. كما أشار جون بيلجر، الصحفي الاسترالي المعروف بمواقفه المناهضة للإمبريالية أيضا إلى “المؤامرة الحالية بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية لخفض سعر النفط من أجل إحداث انقلاب في فنزويلا “. في سياق قريب حرّضت الإدارة الأمريكية بعض مؤسسات التصنيف المالية الدولية على خفض تصنيف فنزويلا، والتضخيم في أزماتها، كما دفعت الصحف الاقتصادية لنشر كل ما يسيء عن اقتصادها، وصناعة حالة من اغتيال السمعة بالكامل. نعود لنوضح أن فنزويلا تتحكم بصرف الدولار، لذا فهي تكون ملتزمة بمدّ القطاع الخاص بالدولارات التي تأتيها من بيع النفط، لكي يقوم القطاع الخاص باستيراد السلع التي يطلبها السوق، وبتوافر هذه السلع وبأسعار معقولة تصير الأمور هادئة ومستقرة.. لكن هنا برزت أزمة أخرى تتعلق بنقص السلع ، وذلك بسبب: 1- قيام بعض شركات القطاع الخاص بأخذ الدولارات وتخزينها في بنوك أجنبية، وعدم قيامه باستيراد ما يحتاجه السوق. 2- قيام التجار الكبار بتعطيش السوق، وتخزين السلع القابلة للتخزين، وترك رفوف المتاجر فارغة، مما يؤدي لزيادة الأسعار. 3- تشجيع كولومبيا، التي تلعب الدور الوظيفي لـ”إسرائيل” في أمريكا اللاتينية للمهربين على نقل البضائع عبر الحدود لها، لإحداث أزمة بالبلاد، وتحاول السلطات الفنزويلية التصدي لها. 4- زيادة في معدلات الاستهلاك أو بالأصح التخزين، وهي ناشئة عن خوف المستهلكين من المستقبل في ظل حملات إعلامية مسمومة تطارد الشعب من كل مكان، وتخبره أنك على شفا مجاعة وحرب، وهذه الحملات لها حوالي خمسة أعوام، أو أكثر، تقريبًا مع نهايات حكم شافيز، تلعب على ذات الوتر. 5- تآمر الشركات الكبرى “متعددة الجنسيات” من نوع (بروكتر آند جامبل، وجونسون آند جونسون، وكولجيت، وبيج فارما، كمبرلي-كلارك)، وهذه الشركات التي كانت تسمح فنزويلا لها بالنشاط، وتوريد المنتجات، فصنعت لها زبائن، ثم قررت أن تقلل من ضخ منتجاتها إلى الأسواق، أو الامتناع تمامًا، للإسهام في إحداث أزمة تطيح بالنظام، وتأتي بآخر يسمح لها بنشاط أوسع وملكية أكبر لها ولرفاقها من الشركات الأخرى الممنوعة. على أية حال اعتماد فنزويلا على هذه الشركات كان خطأ وها هي تدفع ثمنه. (تم استخلاص هذه النقاط من مطالعة بعض فصول كتاب: “اليد المرئية للسوق: الحرب الاقتصادية في فنزويلا” -يمكن تحميله أو قراءة جزء منه عبر أول رابط-). هذه الأسباب الخمسة بالإضافة لأسباب أخرى تتعلق بفساد في جهاز الدولة أغلبه موروث منذ زمن ما قبل شافيز، وتم التراخي في مواجهته، تؤدي إلى نقص البضائع في السوق، وحدوث أزمة. بقي أن نشير إلى أن هؤلاء التجار، وكبار المستوردين لا يتحركون هكذا من أنفسهم أو بحثًا عن الربح فقط، بل هم وثيقي الصلة بالمخابرات الأمريكية، وهناك تنسيق عالي المستوى لإحداث هذه الأزمة، خاصة أن مجهودهم يتصاعد في الوقت الذي تقوم فيه واشنطن بفرض عقوبات اقتصادية متتالية، والتهديد الصريح بالتدخل العسكري (دونالد ترمب في أغسطس 2017)، وتشكيل تحالفات إقليمة كـ”مجموعة ليما” من 14 دولة من أمريكا الجنوبية والوسطى + كندا بهدف حصار البلد والتضييق عليه وإفقاره، بل أن هذه الطبقة البرجوازية، هي ذاتها الشريكة في المجموعات السياسية اليمينية، والتي تدير وتحرّض عصابات لجأت للعنف وقنابل المولوتوف طوال العام الماضي، حيث قامت بإحراق مكاتب حكومية وسيارات شرطة، وتصاعد الأمر إلى درجة أن استخدم أحد المنتمين لها، وهو ضابط جيش منشق، طائرة هليكوبتر لتنفيذ عملية إرهابية حيث ألقى بالقنابل اليدوية على المحكمة العليا، كما أن هذه المعارضة تملك عقلية عنصرية وطبقية دفعتها لأن تحرق شابًا في أوائل العشرينيات بأن رشّت عليه البنزين وأضرمت النار فيه، بمنتهى البساطة!!.. كل هذه الأمور تسببت في حالة من الفوضى والإرهاب والتخريب مما يعني أننا أمام خيوط متكاملة لإحداث هذه المشكلة. كذلك هذه الطبقة منزعجة من المناخ شبه الاشتراكي والقوانين العمالية، فهي تريد تحرير للصرف ولسعر الصرف، وحرية في التعامل مع العمّال والموظفين (تسرّح بدون ضابط، وتشغّل الناس كالعبيد)، تريد حكومة تتبنى النظرية الاقتصادية النيوليبرالية للتقشف، والخصخصة ، ورفع القيود ، الخ. نحن هنا أمام معارضة تفتح الباب للشركات الأمريكية لكي تعيد امتلاك ما تم استرداده وتمليكه للشعب عبر عمليات التأميم، كما أنها تعبّد الطريق لكي تنقض الرأسماليات الكبرى على ثروات البلاد والتي ليست نفطية فقط، بل نحن نتحدث أيضًا عن مياه عذبة، وقدر من الذهب والمعادن. ما حصل من أزمة في فنزويلا، هو ما على الفور وظّفته الصحافة الغربية، لتقول صراحة وبشكل ضمني الآتي: (( انظروا إلى مصير البلدان التي لا تخضع للأوروأمريكي، وتحاول أن تسير باستقلالية.. انظروا إلى مصير من يقاطعون “إسرائيل”، ويعارضون قصف الجيوش الغربية لبغداد وطرابلس ودمشق.. تأمّلوا نتيجة تأميم النفط وطرد الشركات الغربية الذي قام به هوجو شافيز في 2007 وفي مرات تالية بـ 2011 مع شركات تعدين كندية كانت تريد نهب مناجم للذهب.. شاهدوا خاتمة من يحاول تبني أي نظام فيه أفكار اشتراكية.. راقبوا نهاية من يؤمن بأن البشر سواسية وعليهم أن يتحملوا مسؤولية تطوير أنفسهم.. انظروا إلى من يفكر في عقد شراكات مع موسكو وطهران وبكين..)). الصحافة الغربية المهيمنة لا تفعل طوال الفترة الماضية شيء سوى الشماتة، وتلطيخ السمعة (رغم أن القطاع الخاص المتآمر، لا الأفكار الاشتراكية، هي سبب الأزمة)، كما تقوم بتحريض الشعب على النظام، عبر تكرار أخبار العقوبات الاقتصادية، والتهديدات بالغزو.. والصحافة الخليجية وذات الطابع الليبرالي والإخونجي على المستوى العربي، تساهم في هذا الأمر بعد أن تحوّلت حرفيًا، وكما يقولون، إلى “خنزير يقتات على فضلات صحافة منظومة النهب الغربية”. فنزويلا التي نجح رئيسها نيكولاس مادورو في نيل ثقة الشعب بالانتخابات تواجه مؤامرة شرسة، ومجموعة ليما التي تلعب دور الملكيّات الرجعية في الوطن العربي، تصعّد من هجومها على فنزويلا، وتعلن عدم اعترافها بشرعية الانتخابات، وبالأمس 21 مايو قررت استدعاء سفراءها. هذا البلد لم يتأخر عن دعمنا كعرب وبالأخص في مسألة الصراع مع الصهيونية، وهو اليوم يحتاج لأن نرد له الجميل، هذا أولًا، أما ثانيًا فعلينا أن نعي مركزية خصومتنا مع الناهب الأمريكي، وبالتالي فيجب أن نكون ظهيرًا لأي شعب يخوض معركة مع هذه الآلة الإمبريالية الجبّارة، وهذا الدعم يجب أن يكون مصدره الوعي بأصالة الخصومة مع واشنطن، وأن لا نغرق أثناء ذلك في أي شيء جانبي يضغط علينا لتقديم تبريرات. نحن من مصلحتنا إسقاط هذه المنظومة الاستعمارية ودعم كل بؤر مقاومتها.