في أواخر شهر جويلية المنقضي من السنة الجارية 2023 في سان بطرسبرغ الروسية إنعقد مؤتمر خُصص لمجموعة واسعة من العلاقات الإستراتجية بين روسيا و دول القارة الإفريقية كان عنوانها الكبير ما جاء على لسان الرئيس فلادمير بوتين ”نحن نقدر عاليا نتائج عملنا المشترك في القمة. إنني على ثقة من أن النتائج التي تم تحقيقها تشكل أساسا جيدا لزيادة تعميق الشراكة الروسية الأفريقية لصالح ازدهار ورفاهية شعوبنا، إننا ملتزمون ببناء مشترك لهيكلة جديدة وأكثر عدلا ومتعددة الأقطاب للنظام العالمي جديد على أساس المساواة في السيادة بين الدول والتعاون المتبادل للمنفعة”.
هذا المؤتمر يُعد حدثا دوليا يُثبًِتُ تفاصيل المنعرج التاريخي الذي يشهده العالم و يشير إلى بداية تغيير في نوعية العلاقات و الإصطفافات و تفعيلا لهندسة جيوسياسية تقترب أكثر من مصالح الشعوب تحتوي بعدا إنسانيا متوازيا مع المسارات السياسية و الإقتصادية التقليدية ،كما صرًح بذلك جل الوفود المشاركة، الذين أكدوا في مداخلاتهم على تركيز أسس أكثر إنصافا و عدلا لتعاون و الشراكة الدولية التي تضمن سيادة الدول و خصوصيات شعوبها منتقدين للبيئة الاستعمارية المفروضة و ممارساتها على الدول النامية و المُفقرة .
يستجيب التاريخ و القدر بمفهوم شاعرنا أبو القاسم الشابي لصرخة القائد البوركيني توماس سانكارا قبل إغتياله سنة 1987 في صفقة خيانة خططت لها المخابرات الفرنسية بالتعاون مع صديقه ”كومباوري” حينما قال ”يمكن قتل الثوار لكن أفكارهم لا تقتل” ، من مؤتمر سان بطرسبرغ يجدد الرئيس المؤقت لبوركينافاسو إبراهيم تراوري الخطاب الثوري المناهض للكولونيالية و هو يسحب معه شعوب إفريقيا الثائرة التي صبت جام غضبها على ممارسات النهب التي تقوم بها السلط الفرنسية من مالي و النيجر و إفريقيا الوسطى تتعالى حناجر المستضعفين مطالبين بالتحرر من التبعية الغربية معلنين إشتباكهم و معركة تحررهم من الفكر الإستعماري .
كان إنهاء الإستعمار خلال الحرب الباردة بين معسكر الشرق و الغرب يعني الكفاح من أجل تحرير الأرض في العالم الثالث و عندما تم ذلك ، قامت دول قومية تطالب بالسيادة . ثم بحلول التسعينات من القرن الماضي عقب إنهيار الإتحاد السوفياتي و نهاية الحرب الباردة و ظهور مفهوم العولمة كرداء للهيمنة الغرية المطلقة عموما و الأمريكية خصوصا، أصبح فشل عملية إنهاء الإستعمار واضحا في هذه الدول التي مسكت بزمامها نُخب سارت بأنماط القوى الإستعمارية سواء في الداخل من خلالهم أو خارجيا بحكم تعامل الغرب مع هؤلاء بوساطة ما ينشئه من هيئات دولية و منظمات مالية و شركات عابرة للقارات و شبكات إعلامية تسيّر وتوجّه السياسات عبر العالم في جميع القطاعات وفق ما تقتضيه حاجة الغرب و رأسماليتهم المتوحشة التي تبرر الحروب و تزرع الفتن و تنهب الثروات و تفرض التبعية سيما الفكرية منها .
كان أنيبال كويخانو عالم الإجتماع البيروفي(1928-2018) المناهض للكولونيالية في أمريكا اللاتينية عبقريا حينما طرح مفهوم ”التحرر من الفكر الإستعماري” لكشف الواقع الذي تعيشه شعوب الجنوب المستضعفة مركزا على الظواهر الفكرية التي طغت في بلدان العالم الثالث عقب إستقلالها و زوال الإستعمار الإستطاني فيها و إكتساحها لخيال المستضعفين بتعبيره، كعملية تواصل لتسلط الإستعماري ليس فقط موجها إلى المعتقدات و الأفكار و الثقافات بل أساسا على آليات المعرفة و آليات إنتاج المعرفة و إنتاج المعنى و قد جنى الغرب ثمار خططه حتى صار نموذجا كونيا مرتبا بعلاقاته و كل أثاثه السوسيولوجي و البسيكولوجي وقد قدم الحضارة الغربية على أساس أنها نقطة النهاية في مسار التاريخ بتعبير فوكوياما يصعب على خيال المنتمين الى الثقافات الأخرى أن يفكروا خارجه أو أن يجعلوه مادة يتفكرون فيها لا أن يفكروا بها إسقاطا .
لا يختلف عاقلان و نحن نراقب الأحداث المتسارعة التي يشهدها العالم أن قوى الإستعمارية تخسر النقاط و تتقلص هيمنتا العسكرية و الإقتصادية مع بروز قوى إقليمية صاعدة و قوى دولية عائدة تخطط لهندسة أممية جديدة متعددة الأقطاب و أكثر إنصافا ، و لأن التاريخ مواعيد و كل مرحلة لها رجالها و كل معركة لها أبطالها تستعيد شعوب بعض دول إفريقيا و على لسان قادتها خطابها الديكولنيالي محفزة على إستكمال حركة التحرير وإستثمار خيرات جغرافيتهم الغنية لنهضة شعوبهم و تنمية قدراتهم ملتحمة مع الشرق الناهض إقتصاديا .
في تونس لنا نصيب من هذا الخطاب يؤكده الرئيس قيس سعيّد في كل لقائاته مع الداخل و الخارج فيه حرص كبير على تثبيت السيادة الوطنية و رفض مطلق لأي تدخل أو إملاء خارجي فكانت الرسائل واضحة أزعجت من أزعجت و أثلجت من أثلجت وهي لعمري الرافعة الأساسية لأي عمل وطني يحقق الإنعطاف نحو تونس أفضل لكل أبناءها ، إننا على مشارف كتابة تاريخ جديد لتونس و نحن نخوض حرب تحرير وطني على أوتار إنتفاصة 17 ديسمبر و هبة 25 جويلية التي تضعنا جميعا أمام مسؤلياتنا برفع كل التحديات بالعمل ثم العمل و دفن كل المحاولات للعودة إلى الوراء وهو ماورد في كلام الرئيس وهو يعين رئيس الحكومة الجديد.