الأطماع الغربية في ليبيا ليست وليدة اللحظة الراهنة, بل هي حلم قديم ففي 3 تشرين الأول 1911 بدأ الغزو الإيطالي لليبيا بدعوى أن الإيطاليين «جاؤوا لتحرير الليبيين» من الحكم العثماني, وبرغم المقاومة العنيفة من الليبيين للغزو فإن الدولة العثمانية المحتلة لليبيا في ذلك الوقت قامت بتسليم ليبيا إلى إيطاليا عبر توقيع الطرفين اتفاقية تعترف بموجبها الأستانة «بامتلاك» إيطاليا لليبيا فيما عُرف بمعاهدة لوزان في 15تشرين الأول 1912 وبعد يومين أصدر فيكتور عمانويل الثالث ملك إيطاليا منشوراً إلى سكان طرابلس وبرقة بأن طرابلس وبرقة أصبحتا خاضعتين خضوعاً مطلقاً للسيادة الإيطالية.
وعلى الرغم من ذلك لم يستتب الأمر لإيطاليا إذ شكلت المقاومة الليبية بقيادة شيخ المجاهدين عمر المختار صداعاً دائماً في رأس المحتل الإيطالي الذي لم يتمكن من التقاط أنفاسه إلا في 11 أيلول 1931 عندما وقع عمر المختار في الأسر, وفي 15 من الشهر نفسه انعقدت له محكمة خاصة قضت بإعدامه, وتم تنفيذ الحكم في اليوم التالي (16 أيلول 1931) في بلدة سلوق أمام جموع غفيرة من أبناء الشعب الليبي, وفي عام 1934 قامت إيطاليا بدمج إقليمي طرابلس وبرقة كإقليم محتل واحد تحت الاسم التقليدي للبلاد ليبيا.
استمرت ليبيا تحت الاحتلال الإيطالي حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية التي خاضتها إيطاليا مع دول المحور (ألمانيا واليابان) في مواجهة دول الحلفاء (بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية) وانتهت المواجهات في معركة العلمين الشهيرة بانتصار دول الحلفاء على دول المحور وكانت هذه المعركة إيذاناً بانتهاء الاحتلال الإيطالي مطلع عام 1943, وعليه قُسمت ليبيا إلى قسمين الشمال الليبي البريطاني والجنوب الليبي الفرنسي.
وبالاحتلال البريطاني للشمال الليبي 1943 سمحت القوات البريطانية للولايات المتحدة الأمريكية باحتلال مطار الملاحة المستخدم سابقاً من قبل الطليان واستخدامه قاعدة عسكرية لقواتهم الجوية, وقد عرف المطار بقاعدة هويلس الجوية الأمريكية الواقعة على بعد بضعة أميال شرق طرابلس, وسعت الولايات المتحدة منذ ذلك التاريخ للاحتفاظ بهذه القاعدة – إدراكاً منها لأهميتها الاستراتيجية – عبر التفاهم مع الدولة التي تحكم طرابلس بغض النظر عمن هي هذه الدولة لذلك، كانت الولايات المتحدة أكثر ميلاً لمنح إيطاليا الوصاية على كل ليبيا أو جزء منها.
وخلال الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية تم فرض الوصاية على ليبيا بعد تقسيمها إلى ثلاثة أقاليم إذ فرضت الوصاية الإيطالية على طرابلس والوصاية البريطانية على برقة والوصاية الفرنسية على فزان, على أن تُمنح ليبيا الاستقلال بعد عشر سنوات من تاريخ الموافقة على مشروع الوصاية, وعندما عُرض المشروع للتصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة باء بالفشل وأصدرت الجمعية القرار رقم 289 في 21 تشرين الثاني 1949 يقضي بمنح ليبيا استقلالها في موعد لا يتجاوز الأول من كانون الثاني 1952.
وفي تشرين الأول من عام 1950 تكونت جمعية تأسيسية من 60 عضواً ويمثل كل إقليم من أقاليم ليبيا الثلاثة 20 عضواً, وفي 29 آذار 1951 أعلنت الجمعية التأسيسية عن تشكيل حكومة اتحادية, وفي 24 كانون الأول من العام نفسه تم إعلان الدستور واختيار إدريس السنوسي ملكاً للمملكة الليبية المتحدة, وظلت القوى الاستعمارية مهيمنة في ظل الحكم الملكي حتى قامت ثورة الفاتح من أيلول عام 1969 بقيادة معمر القذافي ليقوض الحكم الملكي ويعلن عن نشوء الجمهورية العربية الليبية, ومنذ ذلك التاريخ أصبحت ليبيا إحدى أهم الدول المناهضة للاستعمار, وأصبح معمر القذافي شوكة في حلق كل القوى الاستعمارية في العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي قام بطرد قاعدتها العسكرية الاستراتيجية من فوق الأراضي الليبية.
ومع مطلع عام 2011 تعرضت ليبيا إلى مؤامرة حقيقية بهدف تقسيمها وتفتيتها والاستيلاء على ثرواتها إذ أطلقت الولايات المتحدة إشارة البدء لـ«الربيع العربي» المزعوم, وللأسف الشديد قامت الجامعة العربية بالموافقة على قرار غزو ليبيا بوساطة الآلة العسكرية الجبارة لحلف الـ «ناتو», التي تصدى لها الشعب الليبي وجيشه وقائده مدة ثمانية أشهر كاملة حتى قتل معمر القذافي وسادت الفوضى البلاد نتيجة انتشار المليشيات الإرهابية المسلحة التي جلبتها قوات الـ «ناتو» من كل أصقاع الأرض.
وفي ظل هذه الظروف بدأ شبح تقسيم وتفتيت ليبيا يلوح فى الأفق, ففي ظل الاقتتال وانتشار المليشيات المسلحة لم تعد هناك دولة ليبية حقيقية أو نظام سياسي واحد بل أصبحت على الأرض قوتان مدعومتان من الخارج.
الأولى يقودها القائد العسكري خليفة حفتر، والثانية يقودها فايز السراج رئيس حكومة «الوفاق».
الواقع على الأرض اليوم هو صراع بين هاتين القوتين, لكن موازين القوى تميل لمصلحة حفتر بعد أن قام السراج بعقد اتفاقيات مع نظام أردوغان ليست من حقه ويرفضها الشعب الليبي وقبائله ومجلس نوابه ومعظم المجتمع الدولي, وفي هذه الأجواء يتحرك حفتر لمعركة دخول العاصمة طرابلس وإخراج السراج منها.. لكن حتى لو حُسمت هذه المعركة ستظل ليبيا ساحة للصراع الدولي بهدف الاستيلاء على ثرواتها, ما يعني نجاح المشروع الأمريكي في ليبيا بطريقة أو بأخرى.. اللهم بلغت اللهم فاشهد.
*كاتب من مصر