توصل الإتحاد الأوروبي مؤخراً خلال انعقاد القمة الأوروبية في بروكسل, إلى اتفاق تقاسم وتوزيع المناصب السياسية القيادية للسنوات الخمس القادمة, وحرص صقور الإتحاد على استباق الجولة الأولى للإنتخابات الفرنسية, وتوزيع المناصب على الإئتلاف المهيمن على برلمان الإتحاد الأوروبي، الذي يضم كل من حزب الشعب الأوروبي (يمين الوسط) وحلفائه الرئيسيين وتجمع الإشتراكيين والديمقراطيين وحزب تجديد أوروبا الوَسطي.
حيث تم إعادة تعيين أورسولا فون دير لاين رئيسةً للمفوضية لولاية ثانية, ورئيسة وزراء إستونيا كايا كالاس ممثلاً أعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، وتم ترشيح رئيس الوزراء البرتغالي السابق أنطونيو كوستا لرئاسة المجلس الأوروبي, على الرغم من تورط كل من كالاس و كوستا في بلادهم بفضائح سياسية وقضايا فساد, ناهيك عن الشكوك التي تحيط بطريقة أداء فون دير لاين, واستغلالها منصبها ونفوذها لدفع المفوضية دائماً بإتجاه تقديم الدعم والتمويل لحكومة كييف.
إن ضلوع الرئيس الفرنسي بعملية تسهيل وصول “أصدقائه” لإعتلاء المناصب العليا في الإتحاد الأوروبي, بات أمراً مكشوفاً, وقد تم بالتوافق المستشار الألماني شولتز, وعدد من الزعماء الأوروبيين الذين أشادوا بإتفاق بروكسل وبالتعيينات الجديدة, بإستثناء جورجيا ميلوني التي صوتت ضد ترشيح كوستا وكالاس، وامتنعت عن التصويت على تعيين فون دير لاين.
ولا يخفى على أحد إهتمام الرئيس ماكرون بما هو أبعد من مصالح فرنسا وأوروبا والإتحاد الأوروبي في السلام والأمن الأوروبي, وبإنشغاله بما يجري في أوكرانيا, وبإلتحاقه الدائم بالموقف الأمريكي وبضرورة هزيمة روسيا, وبإخضاع أوروبا لإرادتها وصبغها باليمين, وسط رهانه على استحالة فوز اليمين في فرنسا, وبقدرته على منح الأفضلية لحزبه وما يمكن تسميته بالماكرونية السياسية, خصوصاً وأنه يسير نحو إنهاء ولايته الثانية والنهائية له كرئيسٍ لفرنسا, وعليه تعمد اللجوء إلى إنتخاباتٍ مبكرة بهدف قطع الطريق على أحزاب اليمين واليسار؟.
لكن نتائج الجولة الأولى للانتخابات البرلمانية الفرنسية حملت له وللكثير من الفرنسيين التعاسة والحزن والغضب, بالتوازي مع التعاسة التي أصابت زيلينسكي وهو يتابع أداء بايدن أمام دونالد ترامب في المناظرة التلفزيونية, وهو يدرك أن ترامب قد ينهي الصراع في أوكرانيا خلال يومٍ واحد كما وعد.
يبدو العامل المشترك والحاسم بين الانتخابات الفرنسية والرئاسية الأمريكية هو أوكرانيا, فالبرلمان الفرنسي القادم, سيكون تحت سيطرة نواب التجمع اليساري وجان لوك ميلينشون، وتجمع مارين لوبان اليميني بدرجة أقل, وسيكون البيت الأبيض تحت قيادة دونالد ترامب, وبذلك ستتحول شراكة بايدن الأمريكي – ماكرون الفرنسي الداعمة لإستمرار الحرب في أوكرانيا, إلى شراكة معاكسة تماماً, فترامب يريد أنهاء الصراع في يومٍ واحد, وكذلك يعتقد الكثيرون بأن لوبان تفضل الحل السلمي في أوكرانيا, وتدعم المفاوضات مع روسيا.
والأمر ينسحب أيضاً على مواقف ميلونشون وغالبية اليسار من القضية الفلسطينية, ودعمهم لوقف العدوان على غزة, على عكس زيلينسكي وحكومته, والأمر ينسحب أيضاً على مسألة زعامة فرنسا لمعسكر الحرب على روسيا, والتي يبحث عنها ماكرون وقراره بإرسال القوات الفرنسية إلى جبهات المواجهة المباشرة, ناهيك عن رفضهم إنضمام أوكرانيا إلى الإتحاد الأوروبي.
يبدو أن فرنسا تسير نحو تحدي نهج ماكرون, الذي وعد مؤخراً, زيلينسكي بحضورالرئيس بايدن في باريس أثناء احتفالية الذكرى الثمانين لإنزال النورماندي, بتقديم “المزيد من الأموال لأوكرانيا”، ورغبته ببدء محادثات انضمام كييف إلى الإتحاد الأوروبي, كذلك هجومه على معارضيه الفرنسيين جراء دعمه لزيلينسكي ووصّفهم بالـ “مشبعين بروح الهزيمة”.
ومع إنكسار شوكة إدارة بايدن وماكرون ورئيسة المفوضية الأوروبية وعشرات القادة الأوروبين, بمواجهة روسيا في أوكرانيا, وكذلك هزائم نتنياهو واّلة بطشه العسكرية في غزة, والتي دعمها الرئيس ماكرون قبل تسعة أشهر وأيد “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”, أكدت أن الحضور القوي لـ لوبان وميلينشون, الذي أفرزته نتائج الجولة الأولى للإنتخات, لن يسمح لماكرون بمواصلة دعمه المالي والمادي لأوكرانيا , والإستفراد الإسرائيلي – الأمريكي بالفلسطينيين في غزة.
إن نتائج الجولة الانتخابية الأولى في فرنسا, أظهرت الشارع الفرنسي الذي عجز في الانتخابات الرئاسية الأخيرة عن التأييد الواضح لماكرون أولوبان, وسار في طريق “لا ماكرون , لا لوبان “, بأنه يتجه اليوم نحو اختيار طريق لوبان, بما سمح لها بالقول: أن “معسكر ماكرون تم محوه عمليا”.
لكن كراهية غالبية الفرنسيين للرئيس ماكرون أكدت قبيل الجولة الثانية أن أصوات الناخبين ستصب في صالح لوبان واليمين المتطرف, على غرار جيرانهم الألمان والطليان والهولنديين وغيرهم, وكان على ماكرون استغلال الـ /7/ أيام التي تفصل بين الجولتين الإنتخابيتين لتدارك كارثية نتائج الجولة الأولى.
فلجأ إلى “الإنسحابات التكتيكية” والتخلص من مجموعة نوابه، وتعريض مصداقية فرنسا وسلامها الداخلي للخطر, ولإسقاط رئيس وزرائه غابرييل أتال, على أمل نجاح التصويت التكتيكي الجماعي لوقف لوبان – بارديلا وحزب الجبهة الوطنية, لكن وعي الفرنسيين أنقذ البلاد, واتجهت الأصوات نحو التجمع اليساري الذي تمكن من تحقيق الفوز دون غالبية مطلقة, الأمر الذي سيفرض على ماكرون تشكيل حكومة إئتلافية ستكون ضعيفة قبل أن تولد, للأسف رأى الفرنسيون بأم أعينهم ما فعله ماكرون بغطرسته وطموحاته الأوروبية, وشراكته الأمريكية , كيف أنه أذل الفرنسيين وأضعف فرنسا وأوصلها إلى حكومة ستكون متناقضة ومتنافرة بطبيعتها.
وما بعد ظهور نتائج الجولة الثانية وفوز التجمع اليساري, ومن خلال خطابٍ ناري طالب جان لوك ميلينشون بأحقية التجمع اليساري بقيادة البلاد وبرئاسة الحكومة, لكن ماكرون لن يمنح غريمه وصديقه السابق ميلونشون هكذا فرصة, وطلب من غابرييل أتال البقاء في منصبه كرئيس للوزراء – في الوقت الحالي – من أجل “ضمان استقرار البلاد”.
خصوصاً وأن التوتر بلغ مداه فور إعلان النتائج, بصعود اليسار إلى الصدارة وتراجع اليمين إلى المركز الثالث, واحتلال إئتلاف الماكرونية المرتبة الثانية, يا له من مشهد خصوصاً وأنه قد جاء بعكس التوقعات واستطلاعات الرأي, وأن الثابت الوحيد فيه أن ماكرون أدخل البلاد بحالة الفوضى وعدم الاستقرار السياسي, والتي كان من أولى تداعياتها, فوضى في شوارع باريس وغير مدن, ومواجهات مع رجال الشرطة والأمن.
خسر ماكرون, وعقد أتال عزمه على الإستقالة, وبدت لوبان غاضبة, فيما وصف بارديلا التحالفات الأخيرة والإنسحابات التكتيكية والتصويت التكتيكي بـ ” تحالف العار المضلل”, فيما تبين أن ميلونشون هو الأكثر سعادة, وسط إعتقاده بأحقيته بتشكيل الحكومة ورئاستها.
من الواضح أن ماكرون فتح نوافذ الداخل الفرنسي, ووضع حياة ومستقبل الفرنسيين رهينة دوامة الأحداث الخارجية, بدءاً من أوكرانيا وصولاً إلى غزة والصراع الفلسطيني – الإسرائيلي, وربطها من جهةٍ أخرى بإستمرار ترشيح الرئيس بايدن, والحفاظ على شراكة بايدن – ماكرون .
على الرغم من انتهاء الانتخابات البرلمانية في فرنسا, لكن تداعياتها بدأت, ولن يستطيع أحد تكهن الطريق التي ستسير عليه فرنسا, وفي أي نفق أدخلها الرئيس ماكرون, وسيبقى السؤال, هل كانت التغييرات الداخلية التي حققتها لوبان على تجمعها الوطني كافية لتكون يميناً يختلف عن نظرائه في أوروبا, وهل سيرسل ميلونشون القوات الفرنسية لحماية غزة والدولة الفلسطينية من الهمجية والمجازر الإسرائيلية, على عكس ماكرون الذي أراد إرسالها إلى أوكرانيا لقتال القوات الروسية ؟, ووسط “الدخان” الذي بدأ يعلو سماء باريس هل يكون ماكرون “نيرون” الذي أحرق فرنسا, بعدما تلاعب بها وأدخلها في النفق المظلم.
* كاتب وباحث استراتيجي