في ظل تزايد الاعتداءات الصهيو نية على قطاع غزة، بالقصف المُركّز على كامل مساحة القطاع، وبسببه يرتقي كل يوم مئات الشهداء من المدنيين، أغلبهم من الأطفال والنساء والشيوخ، تناهى إلى مسامعنا تساؤل، تكرّر من قائليه مفاده: ماذا حقق طوفان الأقصى؟ سؤال قد يراه من يراه وجيها، وفي محلّه نطق به السائلون، لكنّه واقعا يفتقد أصحابه همّ القضية الفلسطينية، بعدما أسقط هوى الدنيا قيمهم وأهدافهم، وأخذهم إلى مشاغل واهتمامات أخرى، فرؤية كل واحد لما يجري بعين مادّية صرفة، ومقياسه بمنظاره مفتوح على الأهواء والمنافع الشخصية، اعتمد على الخسائر الفادحة التي لحقت بالقطاع في كل مرّة، وكانت افدح هذه المرّة، وكان ذلك دأبُ الكيان الغاصب عندما يعجز على المواجهة العسكرية، يصبّ جام حنقه وغضبه على المدنيين.
وأقول لقد حقق طوفان الأقصى، تحوّلا نوعيا في مواجهة الإحتلال الصهيوني، فغزّة اليوم ليست غزّة الأمس، الواقعة سابقا تحت تهديد اقتحامات جيش الإحتلال، في حال مرابطة ودفاع، وقد صمدت في منازلات ستة هي: الرصاص المصبوب، الذي ردّت عليه المقاومة ب(معركة الفرقان)، وذلك في 27/12/2008، ومن عمود السحاب، الذي ردّت عليه المقاومة ب(حجارة سجيل)، في 14/11/2012، وعدوان الجرف الصامد، الذي ردت عليه المقاومة ب(العصف المأكول)، بتاريخ 7/7/2014، وبداية التحوّل المقاوم، بردّ (صيحة الفجر)، التي أعقبت اغتيال قائد المنطقة الشمالية لسرايا القدس، بها أبو العطا وزوجته في شقته، بصاروخ موجه من احدى طائرات العدو الصهيوني، وهذا العمل الإجرامي لم يكن ليحصل بتلك السهولة، لو لم يكن هناك عملاء من السلطة الفلسطينية، التي حريّ بها أن تتسمى، مركز مخابرات صهيوني متقدّم في قلب الضفة الغربية، وبسيف القدس أوقف المقاومون عربدة الكيان الغاصب، في حي الشيخ جراح، وفي 5/8/2022، ثم عاد العدو الصهيوني ليغتال مجددا- بفضل عيونه التي يقودها عباس- قائد المنطقة الشمالية لسرايا القدس في شقته بحي الرمال، بعنوان المعركة (وحدة الساحات) (1)، هكذا وأمام صمود حركات المقاومة في غزة، لم تحقق الآلة العسكرية الصهيونية شيئا يذكر، مقارنة بما تملكه من أعتدة متطورة، أمام مقاومة فلسطينية عنيدة بأسلحة متواضعة، ومعها إرادة مقاومين يصارعون المستحيل.
أمّا اليوم، فقد تغيّر الحال من الدفاع، إلى شن هجوم موفّق، من قوى المقاومة (حماس والجهاد الإسلامي)، كان قاعدة أنصار محور المقاومة يتوقعونه من شمال فلسطين المحتلة، فإذا به يفاجئ الجميع، لينطلق من جنوب فلسطين (غزّة)، وكان هجوما ناجحا إلى أبعد حدّ – وأراه تيسيرا من الله جلّ شانه، وتدخّلا منه لصالح عباده المظلومين- أحدث رجّة كبرى داخل الكيان، وضربة معنوية قاسية على المستوطنين، أربكتهم وخلطت حساباتهم، تهاوى فيها الشعور المزيّف بالأمن داخل المستوطنات، فلم تعد تنفع القوات العسكرية والأمنية، ولا جدران الفصل العنصري وسياجاتها في حماية قطعان المستوطنين، ولا عباس وتموقعه الخائن في الضفة، لمدّ معلومات إلى المخابرات الصهيونية عن تحركات المقاومين.
مفاجأة لم تخطر على بال أحد حتى أنصار المقاومة، أحيت الأمل في نفوس الشعوب الإسلامية بإمكان تحرير فلسطين، بعدما تملكها اليأس من تحقيق ذلك، وهي ترى بأمّ أعينها، كيف انساقت دول إسلامية عدّة إلى مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني، دونما اعتبار لمبدأ مناصرة القضية الفلسطينية والعمل على تحريرها، وهو مبدأ عاشت على وقعه شعوبها، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، لكنّه بفعل الخيانات والتخاذلات والتطبيع انطفأت جذوته، فلم يعد له أثر في التزاماتها، بمقدار أهمّيته لدى الشعوب الإسلامية، أمّا وقد وقع طوفان الأقصى اليوم، فقد حرّك بحرارته عواطف ومشاعر هذه الشعوب، المناصرة لإخوانها الفلسطينيين، فهبّت أفرادها صغارا وكبارا نساء ورجالا، يملأون شوارع مدنهم، مستبشرين بهذا التحوّل الجديد في المقاومة الفلسطينية، وفي نفس الوقت منددين بالصمت العالمي، على ما ارتكبه قوات الإحتلال من جرائم حرب، لا يمكن السكوت عليها.
لقد أيقظ التحوّل الجديد في المقاومة الفلسطينية، الأمل في نفوس الشعوب العربية، الذي عاشت لأجل تحقّقه دهرا، فبادرت تلقائيا – ودون أن يدعوها أحد – إلى الاحتفال بهذا الهجوم المفاجئ، باعتباره تحوّلا جذريا، في المعادلة العسكرية لقوى المقاومة الفلسطينية مع العدوّ الصهيوني، وفي مقابل ما أنجزته قوى المقاومة، من خلال هجومها النوعيّ، لم يجد هذا العدو طريقا للرّد، غير استهداف المدنيين وبيوتهم، بل أنّ قواته قصفت حتى المستشفيات، ومنها مستشفى المعمداني، الذي خلّف أكثر من 500 شهيد، وفي هذا منتهى الجبن والسقوط القيمي.
دول الغرب التي كانت على مشهد من هذا، لم تر حرجا في الوقوف إلى جانب المعتدي الصهيوني، بل إنّ هذه الدول الغربية هددت، من يتظاهر في شوارع مدنها، رافعا شعارات إدانة الكيان الصهيوني، ومناصرة هجوم المقاومة بسحب الجنسية، والطرد من بلدانها كبريطانيا وفرنسا وألمانيا، وهذا دليل على أن الشعارات التي تتبجح بها هذه الدول، من حرية وديمقراطية وإنسانية، ليس معنيّ بها سوى الغربي الحاقد على الإسلام وأمّته، والمناصر للكيان الغاصب مهما كانت جرائمه.
استيقظت الشعوب العربية والإسلامية على وقع طوفان الأقصى، وبه عادت إلى مناصرة اشقائها بكل قوة، بعدما وقفت على حقيقة أن الكيان بقواته فاقدين للشجاعة والقيم رغم دعم دول الغرب له، كيان دخيل على فلسطين، وفلسطين لها أهلها، ولها من يناصرها ويشدّ إزرها، مقابل ذلك دخل الكيان الصهيوني في حالة من الإنهيار المعنوي، زعزعت استقراره، وهزّت أركانه من الداخل، ولم يعد في مقدور عناصره أن تثق في منظومته العسكرية ولا السياسية، طوفان فضح بشكل نهائي هذا الغرب المخادع الكاذب، فلم يعد له ما يستر دعاياته، بعدما عبّرت بوقاحة عن وقوفها إلى جانب كيان مجرم متوحش، لا يمتلك من الإنسانية شيئا، فكيف يسكون حال هذا الكيان ومن يقف معه من الدول المطبّعة، عندما يدخل محور المقاومة بكل عناصره في معركة التحرير القادمة، ويحقّق النصر المؤزر الموعود، سيكون حتما موقفا مخزيا، لعلّهم يرونه بعيدا، لكن هذا المحور البارك يراه قريبا، والدليل ما حقق طوفان الأقصى.
عودة الأمل الذي كاد يتلاشى من ضمير الشعوب الإسلامية بتحرير فلسطين، هو المكسب الأكبر الذي تحقق من عملية طوفان الأقصى، فوق كشف أستار من هم مع القضية الفلسطينية مناصرين لها، ومن هم ضدّها عاملين على إنهائها بالخيانة والتحالفات مع الغرب، لقد أثبت أهلنا في غزة رغم الحصار، انهم أهل تحدّي ورجال الصمود والشجاعة، هذا يوم من أيام عزّتهم، وبالتأكيد غدا سيكون أفضل
المرجع
1 – أبرز حروب إسرائيل على قطاع غزة
https://www.aljazeera.net/encyclopedia/2022/8/7/