عندما يقرر شعب ما أن يكون مستقلاً وحراً بعد عشرات السنين من العيش تحت السيطرة الظالمة للقوى القمعية ولا يريد الخضوع لمطالبها، فإنه يواجه المؤامرة والخطة الشاملة لأصحاب الهيمنة. وعندما تعتبر دولة ما نفسها مؤهلةً للاقتدار والحضارة المتناسبة مع قيمها التاريخية، وإذا كانت لديها خطة لتحقيقها وشمرت عن ساعد الجد، فستواجه معارضة القوى التي تنهب مصالح الأمم وقوتها تعتمد عليها. وعندما يرفض نظام سياسي ما قائم على هوية مميزة الهويات العالمية المهيمنة والقمعية، ويتباهى بقدرته مع مرور الوقت، فإنه يواجه تحالفات قوية ضده.
في غضون ذلك، تتوقف العديد من الشعوب والدول والأنظمة السياسية عن المضي قدمًا وتستسلم، فتُعرض مواردها الوطنية للنهب، وهناك عدد قليل من الشعوب والدول والأنظمة السياسية التي تصمد في طريقها والدفاع عن هويتها ضد الموجات المعارضة، وتصل في نهاية المطاف إلى النتيجة رغم التكاليف.
على الرغم من أن المجموعة الأولى تتنازل وتستسلم، إلا أنها لن تسلم من القوى الاستبدادية، ويضيع کل ما تملك، وتواجه الانقسام واليأس والتخلف والانحطاط، ولا يمكنها رفع رؤوسها لعقود. والمجموعة الثانية، المحاطة بأعدائها والتي تواجه جميع أنواع العقوبات والمقاطعات، ستتمكن من الاعتماد على نفسها وإلهها وإيجاد طريقها للتقدم، وبالتالي في خضم المؤامرات والأحداث التي تواجهها، تصل إلى ذروة التقدم. وهذه هي قصة الشعب والبلد ونظام جمهورية إيران الإسلامية.
إننا نعيش في عالم يسيطر فيه الغرب على تقنيات الاتصال لعدة قرون، بما في ذلك الوسائط الفضائية والافتراضية والتقليدية المنطوقة والمرئية والمسموعة. وتُستخدم العمليات النفسية، التي تكون ترجمتها العملية نشر الأكاذيب والإيحاء بأن الغرب يعيش في الجنة وخصومه يعيشون في الجحيم، كأداة تعبيرية في الغرب. تُخفي هذه الإمبراطورية الإعلامية الضخمة موت جورج فلويد، المواطن الأمريكي البريء، علی يد الشرطة، بعبارة “قوة الشرطة الضرورية”، وتقدِّم عدم قتل مواطنة إيرانية محالة إلى مقر الشرطة على أنه ضحية عنف الشرطة وفوق ذلك ضحية الحكومة، وعلامة على انعدام الحرية في إيران، وهذه هي قصتهم كل يوم.
إمبراطورية الغرب الإعلامية تصور موت ومعاناة آلاف المدافعين عن إيران ضد العدوان العسكري العراقي بالمواد الكيماوية الألمانية كنتيجة طبيعية للحرب، وفي الوقت نفسه تصف اعتقال الجاسوس الألماني من قبل الشرطة الإيرانية، بأنه نتيجة لانعدام الحرية في المجتمع الإيراني. إمبراطورية الغرب الإعلامية تفرض الرقابة على أنباء مقتل ما يقرب من مليون مواطن، بينهم نساء وأطفال عراقيون، على أيدي جنرالات وضباط الجيش الأمريكي، وفي الوقت نفسه تعتبر تدمير سور ثكنات المعتدين الأمريكيين في العراق عملاً إرهابياً!
ما حقيقة أحداث الشغب التي شهدتها طهران في الأسابيع الأخيرة؟
للعثور على إجابة لهذا السؤال، إذا راجعنا الإمبراطورية الإعلامية للغرب أو تصريحات كبار المسؤولين في معظم الدول الغربية؛ فسنتأکد من أن إيران تشهد انتفاضةً شعبيةً واسعة النطاق ضد الجمهورية الإسلامية، والحكومة منخرطة في قمع معارضيها، وستقضي هذه الانتفاضة علی الحكومة الحالية لإيران في نهاية المطاف. في السرد الغربي السائد، فقد احتل الملايين من الناس الساحات والشوارع والجامعات والمدارس ضد الجمهورية الإسلامية، وانتفضت الحكومة ضدهم بكل قواها العسكرية!
لا علاقة لوسائل الإعلام الغربية بالإجابة على هذه الأسئلة:
– كيف يمكن لثورة ونظام ديني في بلد ذي توجه ديني، أن يواجه معارضة غالبية الشعب؟
-كيف تواجه ثورة ما تهديدًا وجوديًا في حين أن معظم مؤسسيها ما زالوا أحياءً ونشطين؟
– إن ثورةً شارك قرابة أربعة ملايين من أنصارها في مسيرة الأربعين الشاقة التي استمرت لعدة أيام في العراق، ودعوةً غديريةً تجلب الملايين من المواطنين الطهرانيين المؤمنين إلى الشوارع فرحين، فكيف سقطت بعد أيام قليلة؟ كيف واجه الزعيم الديني والسياسي لإيران، الذي له موقع المرجعية الإلهامي والمقدس، عدم الاهتمام من قبل معظم الشعب الإيراني؟
– كيف انخرطت جمهورية إيران الإسلامية، التي لم تسجن حتى قادة أعمال الشغب في عام 2009، في عمليات قتل جماعي في مواجهة المواطنين المحتجين؟
– إذا كان النظام السياسي الإيراني يواجه تظاهرات مليونية من قبل خصومه، فلماذا لا تُذاع صورة هذه التجمعات المليونية في وقت لا تستطيع فيه الحكومة السيطرة على صور الهواتف المحمولة وما إلى ذلك؟
– إذا كانت الحكومة الإيرانية تواجه مظاهرات عفوية حاشدة للمعارضين، فلماذا هناك حاجة لإشادة الحكومات الغربية على أعلى مستوى بأحداث الشغب في إيران باستمرار ودعم المشاغبين؟
– في الأساس، في العقد الماضي، هل هناك حكومة في غرب آسيا واجهت معارضة ملايين المواطنين في الشارع، حتی يحدث ذلك للحكومة الإيرانية؟
لكن ما حقيقة الاحتجاجات وأعمال الشغب في إيران؟
1- إيران، مثل أي دولة أخرى في غرب آسيا، بل مثل أي دولة أخرى في العالم، تشهد حضور وسائل الإعلام الجديدة والشبكات الاجتماعية، والتي بالإضافة إلى النظام الفني، فإن نظام التوجيه الخاص بها تحت تصرف الغرب. تتم إدارة وتحميل جميع وسائط مايكروسوفت Macrosoft ومعظم وسائط Microsoft في الغرب. وقد وضع الغرب وخاصةً نظام الهيمنة، مجموعةً من الشباب في جميع البلدان تحت التعليم والإدارة. وتمكن هؤلاء الشباب تحت التعليم الغربي من إزاحة الحكومات واستبدالها بحكومات أخری في دول مثل مصر والعراق. وإيران ليست مستثناةً من هذه القاعدة العامة من حيث مواجهة مايكروسوفت وميكروسوفت، بل مصلحة الغرب في تغيير الحكومة والقيم في إيران أكثر من معظم الدول الأخرى، وبطبيعة الحال فإنه يستخدم وسائط ماكرو وميكرو.
في غضون ذلك، يعتمد الغرب على الشباب الذين يقضون ما معدله 8 ساعات من وقتهم في هذه الوسائط، بحيث يكون “العالم الحقيقي” بالنسبة لهم هو العالم الافتراضي، وعندما يدخلون بشكل مؤقت ومحدود إلى العالم الحقيقي من العالم الافتراضي، فإنهم يرون العالم الحقيقي على أنه افتراضي، ويتبعون نفس البطولات والعنف والنجاحات البصرية للألعاب في العالم الحقيقي، وهم يدركون الفرق بين هذين العالمين فقط عندما يكونون بعيدين عن الشبكات الاجتماعية والألعاب الافتراضية لفترة من الوقت. ولكن هل يشكل هؤلاء السكان، الذين عاشوا في فضاء بلا حدود وعُزلوا عن القيم السائدة في مجتمعهم، الأغلبية في المجتمع؟ بالتاكيد لا. يتم احتواء هؤلاء السكان في الغرب بالقوانين، وتلجأ الشرطة إلى أقصى درجات العنف، لكن في مجتمعات مثل إيران، حيث الحفاظ على دماء المواطنين أمر لا يحتمل التسامح، تحاول الحكومة الحد من هذا الضرر الاجتماعي بأساليب أخلاقية ودعوة العائلات للتعاون، وبالطبع بالقدر نفسه، فإن تسامح حكومات مثل إيران وعدم اتباع أسلوب اللجوء الأقصى إلى العنف، يتسبب في إطالة أمد أعمال الشغب والدمار نسبيًا.
بناءً على الإحصائيات النهائية المقدمة بشكل منفصل من قبل ست منظمات مسؤولة في إيران، وهي تتطابق مع المشاهدات العينية أيضًا، فإن جميع الشباب الذين شاركوا في أعمال الشغب في طهران وعدد من المدن الإيرانية خلال شهر واحد، يبلغ عددهم ما بين 60 و 70 ألف شخص، وهو أقل من عُشر واحد في المائة مقارنةً بعدد سكان العاصمة البالغ حوالي 12 مليونًا، وسكان البلاد البالغ عددهم حوالي 85 مليونًا. في الوقت نفسه، فإن 26٪ فقط من هؤلاء السكان هم من الشباب الحاصلين على التعليم الجامعي، بمن فيهم الطلاب والخريجين.
تظهر دراسة السكان المشاركين في أعمال الشغب هذه، أنه على الرغم من أن عددًا كبيرًا من المواطنين الإيرانيين يواجهون صعوبات اقتصادية مثل العيش والسكن والبطالة، إلا أنه وفقًا للفئة العمرية من 15 إلى 22 عامًا، لم يكن للمشاركين في أعمال الشغب مشاكل اقتصادية، بل معظمهم كانوا من المتضررين اجتماعيًا.
2- تمت إدارة أعمال الشغب الأخيرة في إيران من قبل مجموعة من الدول، ومجموعة من المنظمات الانفصالية الإيرانية التي تعيش في بعض الدول المجاورة وتقيم في أوروبا، ومجموعة من العناصر المدربة. على الرغم من أن الغرب ليس لديه القاعدة اللازمة في إيران، ولکن من ناحية، كانت بعض السفارات الأجنبية في إيران، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا، تتواصل في مستوى معين مع المعارضين للحكومة الإيرانية على مدى العقدين الماضيين على الأقل، ولهذا السبب تم توجيه الاحتجاج لها رسميًا من قبل وزارة الخارجية الإيرانية. ومن ناحية أخرى، يحاول الغربيون تثقيف وإعداد وتجهيز وتشجيع مجموعة من الشباب الإيراني باستخدام قدرات الفضاء الافتراضي، وفي هذا الصدد هناك وثائق تكشف دور الغرب في هذه القضايا.
كان من الواضح وجود منظمات انفصالية إيرانية مثل بيجاك وباك وديموقراط وكومليه، ولجوءها إلى الأعمال المسلحة واغتيال المتظاهرين والشرطة. علاوةً على ذلك، بالتزامن مع هذه القضية، فإن وقوع حادث في جنوب شرق إيران – مدينة زاهدان – وإطلاق النار من قبل عناصر متسللة بين المصلين في مسجد لأهل السنة في هذه المدينة، يشير إلى الدور النشط للجماعات الانفصالية في أعمال الشغب هذه. وبطبيعة الحال، في نفس الوقت، فإن حجم الإجراءات المحدود والنتائج الضئيلة، يشيران إلى القدرة المحدودة للانفصاليين الإيرانيين.
في هذه الأثناء، فإن السعودية وبسبب الهزائم الكبيرة التي لحقت بها من شعوب المنطقة، وخاصةً في حرب اليمن، وتعتبر الرياض إيران السبب الرئيسي لمقاومة شعوب سوريا والعراق ولبنان واليمن والبحرين ضدها، قامت بدور نشط في أعمال الشغب، والواقع أن تلفزيون “إيران إنترناشيونال” الذي يتغذى على أموال السعودية، يظهر الدور الواضح لهذا البلد.
لكن على الرغم من أن شبكات مثل إيران إنترناشيونال كانت حرةً تمامًا في نشر الأکاذيب، وكانت سخيةً في ذلك، ولکن فقد تمكنت عمليًا من جلب عدد قليل من الأشخاص إلى ساحا الشغب، وكما توقعت وزعمت، لم تتمكن من خلق تحدي الاحتجاجات الحاشدة لنظام الجمهورية الإسلامية.
3- الاضطرابات الأخيرة التي شهدتها طهران وبعض المدن الإيرانية، سببها خلق الغموض حول وفاة “مهسا أميني”. وقد حاولت الإمبراطورية الإعلامية للغرب وصفها بـ “المقتولة المظلومة التي يجب الدفاع عنها”. لكن بناءً على التقارير الوثائقية للطب الشرعي الإيراني، وفريق الأطباء المتخصصين المكون من 19 عضوًا، والتحقيقات المنفصلة التي أجراها البرلمان الإيراني، وكذلك الوثائق التي نشرها المستشفيان اللذان دخلتهما مهسا أميني، وأيضاً بناءً على الکلام الصريح لوالد مهسا أميني، على الرغم من أن وفاتها حدثت في مقر الشرطة، إلا أنه لم يحدث قتل.
وبحسب السجلات الطبية، أصيبت مهسا أميني بورم في المخ وهي في الثامنة من عمرها، وخضعت لعملية جراحية في أحد مستشفيات مدينة تبريز، وكانت تحت إشراف طبيب. وفي يوم الحادث، تمت إحالتها إلى مركز شرطة الأخلاق في طهران للمشاركة في مقابلة توضيحية بسبب ملابس غير لائقة وتجاهل لقوانين الشريعة، وأثناء وجودها في القاعة العامة حيث كان يتواجد العشرات من الأشخاص الآخرين، تصاب بمشكلة في القلب ويغمی عليها. تم إجراء الإنعاش الأول في مركز الشرطة هذا ثم تم نقلها إلى المستشفى. ولکنها عانت مرةً أخرى من صدمة في المستشفى، وتوفيت في النهاية.
تحرك مسؤولون كبار في الجمهورية الإسلامية، بينهم رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان ورئيس السلطة القضائية، بعد وفاة مهسا أميني وطالبوا بتحقيق مفصل حول ما حدث. وبناءً على ذلك، يقوم الطب الشرعي في طهران بتعيين فريق من 19 طبيبًا خبيرًا للتحقيق. وبعد 12 يومًا من التحقيق الدقيق والاطلاع على المستندات الطبية والسجل الطبي للمتوفية، يعلن هذا الفريق عدم تدخل الشرطة في وفاتها. علاوةً على ذلك، أعلن الفريق المنفصل للبرلمان الإيراني بعد حوالي أسبوعين عن براءة الشرطة في وفاة أميني.