طبيعي أن يكون لأي إنسان عدوّا من البشر، وإن لم يصدُرْ ومنه ما يسيء إلى هؤلاء الذين إتخذوه عدوّا، وفي أغلب الأحيان يكون المستهدَفُ غافلا عنهم، وعمّا يدبّرون له من مكائد،أمثلة كثيرة من هذا القبيل نعيشها، وأجيال متتابعة إكتوت بها، منذ أن نزغ الشيطان بين ابني آدم قابيل وهابيل، وحدث ما حدث بعدها، لتسْودّ على أثرها قلوب، وتقع في محظور العداء الغير مبرّر، ولولا آفة الحسد التي يوغر بها الشيطان صدور النّاس، لتنخر رابطة العلاقات البشرية، وتفسد مودّتهم ببعضهم، على جميع المستويات كانت دنيا أم عليا، لما استقرت عداوة غير مُبرّرة في قلوب الناس.
ما دعاني للكتابة اليوم هذه الهجمة المنظمة التي استهدفت مفتي الديار السورية فضيلة الشيخ أحمد بدر الدين الحسّون، بعد كلمة تأبين كان ألقاها في حلب، ترحّما على روح الفنّان صباح فخري، ونحن نعلم جيّدا أن هذا الرّجل الشريف بمواقفه الوطنية الصادقة، ووفائه الكبير لسوريا الأسد، وعدائه الشديد لأعداء وطنه،مهما علا شأنهم، وقد قدّم من أبنائه شهيدا فداء لسوريا، استهدفته الجماعات التكفيرية بسبب مواقف أبيه، مما سمّيَ زورا بالثورة السورية.
وكان سماحة المفتي أحمد بدر الدين حسون قال في كلمة ألقاها خلال مراسم عزاء الفنان السوري صباح فخري، إن “خريطةسوريا مذكورة في القرآن” في سورة “التين”. واضاف في حديثه، أن ذكر شجرتي “التين والزيتون” ضمن الآية، دلالة على “خلق الإنسان في سوريا في أحسن تقويم”، معتبرًا أن من ترك البلاد سيلقى عقابًا من الله، مستشهدًا على توصيفه بالآية “رددناه أسفل سافلين”.(1)
إنّ من لم يفهم مقاصد سماحة المفتي وذهب بها بعيدا لتصبح مبرّرا لمهاجمته على أنه أساء تفسير الآيات في السورة كان يدرك جيّدا أن الرّجل لم يكن ليدّعي ما قاله تفسيرا لها، وإنّما على أنها تنطبق في أكثر من معنى على بلاد الشّام، ولا أرى حرجا في ذلك، لا من حيث مقاصده في مهاجمة كل من باع وطنه أو غادره، طلبا لدنيا يصيبها، أو استجابة لمخططات الدول الغربية، في إفراغ سوريا من أهلها، واستغلالهم حيثما استبدلوا وطنهم بوطن آخر، لا تربطهم به رابطة تاريخ ولا دين ولا حتى إنسانية.
المجلس العلمي الفقهي التّابع لوزارة الأوقاف السورية، دفع بكلام سماحة المفتي بعيدا، ولم يكن ليحرّك ساكنا، لولا الضوء الأخضر الذي تلقاه لمهاجمته، ويبدو أن الشيخ بدر الدين الحسون مطلوب رأسه قبل هذا بكثير، لإزاحته من دار الفتوى للجمهورية العربية السورية، بعدما اشتمّ منه من اشتمّ ميلا وتعاطفا لمحور المقاومة، بما فيه من فصائل وقوى عسكرية، على رأسها إيران الإسلامية وحزب الله، وهذه المواقف لا تعجب من لا يزال التطرّف الطائفي يسكن أحشاءهم، ويرون أن هذا المحور المبارك يمثّل عقبة في طريق أمانيّهم وأحلامهم، في تنسّم مراكز سياسية عالية في البلاد، ليس دونها سوى إزاحة المفتي من على رأس دار الإفتاء، لتخلوَ لهم أوجه طموحاتهم، فيتربّصون من جديد للضحيّة الثاني بعد الحسّون، كالأرضة التي تنخر الخشب من داخله، فتتركه قشرا وهيكلا بلا قلب.
ولست هنا في مقام مهاجمة أحد، وقلبي لا يحمل بغضا لأيّ من هؤلاء الذين تألّبوا على المفتي، وأعلنوا استنكارهم لما جاء فيه من تفسير لسورة التين، وقياسها على واقع الشّام، بل دعاني لذلك أن الرّجل لم يتكلم بما تلفظ به من باب القول بأنه تفسير لكتاب الله، فليس فيما صرّح به دليل على ذلك، وإنّما جاء كلامه كناية على واقع سوريّ، استصحبه بتوسّع عقلي في مدلول آيات من سورة التين، اعتبر فيها أن ما اقسم به المولى في السورة، موجود بكثرة في أرض الشّام، وكل ما أقسم به المولى سبحانه له مكانة رفيعة عنده، ونحن نذكر جيّدا قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله)(2) سورة الإسراء الآية 1
فما حول المسجد الأقصى إجمالا، مبارك بمنطوق هذه الآية، ولا يمكننا أن نستثني شيئا من البقاع حوله، لعدم معرفتنا بحدود مقصد قوله تعالى من الآية الكريمة، وبالتّالي فلا تخلو الشّام من بركة، وتعبير سماحة المفتي تؤيّده هذا الآية الكريمة، فلماذا كل هذا التهجّم على شخصه، وهو الذي ما فتئ يقرّع أعداء سوريا، والمتخاذلين عن نصرتها من أهلها المغادرين لها خوفا وطلبا للدنيا، وبقية من حجزتهم مصالحهم عن الخروج.
وكان على المجلس العلمي الفقهي أن يستفسر أوّلا من سماحة المفتي مقصده، مما ذكره بخصوص سورة التين – وهم أهل وزارة واحدة – قبل أن يحسم أمره في البيان الصّادر منه بتاريخ الخميس 11/11/2021، ويعتبره تفسير بالرأي، وتحريفا للمقصد العام للقرآن،لا ينطلق من دراية بقواعد تفسير القرآن الكريم، بل إنه إقحام للدين في إطار إقليمي ضيق”، مشيرًا إلى أن التفسير بهذا المفهوم الضيق بعد عن المقصد الإنساني الذي أراده الله في هذه السورة، وذهب المجلس في مطابقة منهج الحسّون بتحريف المتطرّفين والتكفيريين لتفسير القرآن لأغراض شخصية، تنسجم مع أهدافهم التكفيرية (3)
وليت شعري ما الذي أغضبهم من الحسون، لولا اضطرام غيظ في الصدور؟ وما كان هذا ليقع لو تعقّلوا قليلا، فليس صعبا ادراك مقصد الرّجل ومراده من كلمته في المناسبة، مثال (صباح فخري) مثال رجل وطنيّ، رفض مغادرة بلاده إلى الخارج، رغم معرفته بأن أي بلد خليجي لو قصده، سيحصد منه ملايين الدولارات، وينعم بعيشة جدّ مرفهة في ظله، فأبى المغادرة وبقي سوريّا قلبا وقالبا، يقاسم بلاده حلوها ومرّها، إلى أن توفاه الله ليوارى في تربتها وفيّا مخلصا، خلافا لأولئك الذين اختاروا بمحض إرادتهم المغادرة للعيش بلا كرامة، تحت رحمة واطماع الطامعين.
هذا هو مفتي الديار السورية بدر الدين الحسون، كما عهدناه وعرفناه، لِسانا مقرّعا لأعداء بلاده، أحبّ من أحبّ ذلك وكره من كره، ولا أعتقد أن التحرّشات بشخصه ستؤتي أكلها مهما تحشّد لها أعداؤه، وأقول أعداؤه لأنهم بالفعل لم يعد يخفى منهم شيء من عدواتهم، سيبقى الحسّون حسّونا مغردا بما يحرّك لواعج أعدائه، فيبدونها في كل فرصة تسنح لهم، ومن اسودّ قلبه على رجل قال ربي الله، فلن ينفعه صِبَاغُ بياضٍ ولو انغمس فيه، فلا ذنب للمفتي الحسّون فيما قاله، الذنب فقط لمن سمعه، فذهب بكلامه بعيدا عما كان يقصده.
المصادر