لماذا يستمرّ البشر بمشاهدة مسرحيات شكسبير وقراءة أشعار المتنبي بعد قرون من مغادرتهما هذا الكوكب؟ ولماذا يجد الكتّاب بغضّ النظر عن منشأهم وتجاربهم صدى في قلوب أناس في أرجاء متباعدة من هذه المعمورة؟ أوَ ليس لأنّ هناك عناصر مشتركة في التجربة الإنسانية رغم تباعد الأماكن والأزمان؟ وأنّ هذه العناصر هي في النتيجة الأهمّ والتي تشكّل الأواصر الحقيقية بين البشر على هذا الكوكب الصغير.
علّ قول هذا يبدو بديهياً لولا أنّ نظريات العولمة، وفي نصف القرن الأخير على وجه التحديد، حاولت جاهدة أن تعيد خلق العالم على صورتها، ووضعت كلّ المبررات لفعل ذلك، فإما أن يكون شعب ما أو دولة ما أو حكم ما على صورة ما توصل إليه الغرب من أنظمة وأسلوب حياة، وإما تعتبر إنسانيته ونظام حكمه وأسلوب عيشه غير مكتمل الشروط. وقد اشتدت حدّة هذا التوجه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في تسعينيات القرن الماضي واستقرّت الليبرالية الجديدة على أنها سيدة الكون، وأنها تملّكت صكّ براءة بأسلوب الحكم والحياة.
فإما أن يكون العالم على صورتها، أو أنه حكماً بحاجة إلى تغيير ليصل إلى تلك الصورة، وقد حكم هذا المفهوم كلّ شيء من أسلوب الحكم إلى طريقة الحياة والغذاء والعيش واللباس وسبّب أزمات لا تحصى للبشرية. فأنا أتذكر حين زار عضو مجلس شيوخ أميركي الرئيس الراحل حافظ الأسد أكثر من مرة في أوائل التسعينيات أنه سأله: سيادة الرئيس؛ لماذا لا يوجد ماكدونالد في دمشق؟ لا يمكن لسورية أن تكون دولة حديثة إذا لم يكن بها ماكدونالد، وشرح له الرئيس في حينه أنه لدينا مأكولاتنا الشعبية؛ مثل الشاورما والفلافل والكباب، وأنّ كلّ منطقة وكلّ شعب قد طوّر أنواعاً من الطعام تناسبه وتناسب طريقة عيشه.
ولكن مثل هذا الجواب لم يكن مألوفاً، وربما لم يكن مقبولاً لدى الكثيرين في الغرب. ولم تكن الدعوات إلى شنّ الحروب بادّعاء نشر الديمقراطية إلا استكمالاً لهذا المفهوم، والذي يضع الليبرالية الغربية، وطريقة العيش والحياة كأنموذج لبقية البشر. ولا شكّ أنّ هذا المفهوم يحمل في جعبته نهب الموارد الاقتصادية للدول الأخرى، والهيمنة على مقدراتها، ولا يخلُو من نكهة عنصرية بتفوّق الإنسان الغربيّ على كلّ الألوان والأعراق، وأنّه النموذج الذي يجب أن يسعى الآخرون كي يصبحوا شبيهين له. وقد سبّب هذا انقراض ثقافات وعادات وحضارات بالحرب أو السلم، أفقرت تاريخنا الإنساني، حيث هجرت شعوب عديدة عادات وحضارة أنسب لها ولطريقة عيشها ولتاريخها، وربما لجغرافيتها ومناخها، الأمر الذي نتج عنه ضياع فكري وعاطفي وحضاري من الصعب معالجته أو التخلص منه. كلّ هذا كان سابقاً لزمن كورونا، ولكنّ أحداً لم يتوقف ليدرس هذه الظواهر ويحصي الخسائر التي تعرّضت لها البشرية نتيجة عدم الإيمان بالتعدّدية الثقافية والفكرية، ونتيجة النظرة الفوقية الغربية للعالم برمّته، والتي تحمل في طيّاتها شعوراً دفيناً بالعنصرية تجاه الأعراق وأتباع الديانات والثقافات الأخرى.
ومن هنا اجترح الغرب أسلوب العقوبات على كلّ دولة أو شعب لا يأتمر بأوامره، ولا يتّبع خطاه، وحتى أنّ هذه العقوبات فُرضت خارج إطار الأمم المتحدة، ومن جانب واحد، وبشكل قسري، ومع ذلك فقد فُرِض على جميع دول العالم الالتزام بها ومن لا يلتزم بها تحلّ به العقوبات ذاتها. وأصبحت الهيئات الأممية في ظلّ هذا التفرّد الغربي هياكل خاوية تنقصها القيادة والكفاءة والحكمة، وتأتمر هي ذاتها بأمر السيد الغربي بحيث فقدت دورها ومشروعيتها. كلّ هذا كان أيضاً قبل زمن كورونا، وقبل أن يتمّ الحديث عن أنّ كورونا سيسبب كساداً عالمياً لم يشهد له العالم مثيلاً منذ ثلاثة قرون، وأنه سيسبب الموت في أفريقيا، وقد تسبّب أصلاً بمجازر مشينة بحقّ كبار السنّ في دول غربية كانت تدّعي الحضارة والرّقي وإذا بها تفتقد إلى أدنى درجات الرحمة والإنسانية. وتبيّن أنّ الإنسان في اليابان وألمانيا ونيجيريا والبرازيل هو نفسه، وأنه سيدافع عن بقائه، وسيتحوّل إلى وحش كاسر في وجه احتمال تعرّضه للجوع، وسيقف في انتظار شراء السلاح، بينما الفيروس الذي يتهدّده لا يُرى بالعين المجرّدة.
لقد تبيّن أنّ كلّ النظريات العنصرية والتي تضع الغرب في قيادة العالم، هي نظريات من صنع مستفيدين ومروّجين لثرواتهم وأنفسهم ونظمهم في إعلام يسيطر على الذاكرة العالمية وتملكه كله بعض من هذه الشركات والتي تلتقي مصالحها مع مصالح الساسة وتجار السلاح ومروجي الحروب والكراهية، ولأنّ كورونا قد كشف نقاط ضعف هؤلاء، وبرهن للعالم أجمع حجم الدعاية التي تضخّم من قدرة وحضارة وقيم هؤلاء، فالمعركة اليوم بدأت تأخذ وجهة مختلفة لمحاولة التغطية على نقاط الضعف، واستدراك ما انكشف من المستور، وتوجيه لعبة اللوم إلى مكان آخر كالصين وروسيا وإيران ومنظمة الصحة العالمية وغيرها.
لقد برهن انتشار كورونا أنّ منظمة الصحة العالمية وغيرها من منظمات الأمم المتحدة تفتقر فعلاً إلى القيادة والكفاءة، وهذا ليس بجديد لأنّ هذه المنظمات أنموذج للبيروقراطية التي لا تتميّز بالكفاءة أبداً بل بالولاءات والخدمات الشخصية لأتباعها لأنّ النتائج الناجمة عن أعمالها تشهد أنها أقلّ بكثير مما تدّعي، والأمر ذاته ينطبق على النظم السياسية في الغرب، والتي اعتادت كلّ هذه القرون على شنّ الحروب ونهب ثروات البلدان الأخرى دون أن تعتمد على التنمية الحقيقية وإرساء أسس دولة الرفاه الاجتماعي، فكيف وأنّ كلّ هذا قد انكشف دفعة واحدة، فإمّا أن تعترف هذه الدول والأنظمة بحقيقة طبيعتها، وتبدأ بأسلوب جديد مختلف تماماً عمّا عهدته وعملت عليه منذ عقود أو قرون أحياناً، وإمّا أن تستكمل الدرب بتوجيه اللوم إلى الآخرين وتبرئة نفسها من كلّ ما أصبح حقيقة واقعة في أعين وأذهان الناس وذلك من خلال القفز إلى استكمال صراع مع القوة الناشئة والتي تختلف عنها لأنها حافظت على إرثها وتراثها وحضارتها وعاداتها وأيضاً برهنت على تميّزها في الاختراع والإبداع وأيضاً في الحرص على الآخرين، ومساعدتهم فعلاً في وقت الأزمات ومن الواضح أن هذه القوة هي الصين.
ومن هنا تأتي الضجة التي أثارها ترامب وانضمت إليه مؤخراً فرنسا وبريطانيا في توجيه اللوم إلى الصين في انتشار فيروس كورونا، وكأن ترامب لم يضع وقتاً ثميناً وهو يسخر من هذا الفيروس ويدّعي أنه لن يؤثر على حركة الاقتصاد، وأنّ الولايات المتحدة مستعدّة أتمّ الاستعداد، ولن يؤثر عليها في شيء.
إنّ القفز إلى محاولة محاسبة الآخرين عن وباء عالمي لا يعلم أحد حتى اليوم حقيقة وجوده وأسباب انتشاره هي محاولة لتجاهل كلّ الحقائق الساطعة، والتي كشف عنها كورونا، كتأثيرات جانبية له: من الافتقار إلى القيادة، إلى الافتقار إلى الكفاءة، إلى الافتقار إلى الديمقراطية الحقيقية، إلى الافتقار إلى منظومة القيم الأخلاقية التي علّمتنا جميعاً أن نبجّل كبار السنّ، فأصبحوا عبئاً تُرتكب المجاز بحقّهم.
ولكنّ الأمر مفهوم لأنّ اعتراف الليبرالية الغربية بكلّ العيوب التي كشف عنها كورونا سيعني اضطرارها إلى الاستقالة من النظام العالمي، والتسليم للقوى الأخرى التي برهنت أنها تمتلك القيادة والحكمة والكفاءة والقيم الإنسانية لتقود هذا العالم وفق منظور تعدّدي إنساني لا يُلغي أحداً.
ولكن سواء اعترفت الدول الغربية بذلك أم لم تعترف، فهذا هو المسار الذي تريده البشرية اليوم: عالم واحد وبقيم متماثلة لاحترام الإنسان وكرامته وسيادة الدول بعيداً عن الفوقية والعنصرية ونظام العقوبات المشؤوم. لذلك تدعو الصين إلى تكاتف الجهود وإلى التعاون الدولي، بينما تتوعّد الولايات المتحدة والغرب بمحاسبة الصين لأسباب واهية لا تقنع أحداً، ولكنها تعبّر عن أزمة يعيشونها ويحاولون الخروج منها عن طريق استهداف الآخرين تماماً كما اعتادوا فعل ذلك مع دول وشعوب منطقتنا، ودول أميركا اللاتينية، إلا أنّ هذه الوصفة غير صالحة أبداً لبلد بإمكانات وتوجّهات الصين، كما أنها لم تعد صالحة أبداً في زمن ما بعد كورونا؛ فالعالمية اليوم وغداً ستبنى على أسس مختلفة جداً عن النظم الليبرالية، وسيكون على هذه النظم أن تعترف بذلك عاجلاً أم آجلاً.
الميادين