على وقع استمرار المعارك الميدانية والجيوسياسية في أوكرانيا, وسط مناشدة العقلاء بضرورة إيجاد حلٍ لوقف الحرب الكارثية قبل إنفلات الأمورعلى المستوى الدولي وتدحرجها نحو الأسوأ, في وقتٍ وضعت فيه محاولة اغتيال مرشح الرئاسة الأمريكية دونالد ترامب يدها على صاعق التفجير, بعدما خلقت واقعاً سياسياً جديداً في الولايات المتحدة, تزامنت مع إعلان الرئيس الحالي جو بايدن تنحيه وعزوفه عن متابعة السباق الرئاسي, الأمر الذي فسح المجال أمام نائبته كامالا هاريس لحمل السيف الديمقراطي لمبارزة الجمهوري الهائج دونالد ترامب, وتحولت أنظار العالم نحو مراقبة اّلية انعكاس تداعيات هذه المستجدات على الميدان الساخن في أوكرانيا, ويطرح السؤال نفسه, هل خروج جو بايدن من المشهد سينهي حرب الناتو والإتحاد الأوروبي ونظام كييف على روسيا ؟ وهل سيكون العالم أمام مشهدين أمريكيين, أولهما فوز هاريس بالرئاسة وفريق الحرب على روسيا, أم فوز ترامب الذي وعد زيلينسكي بوقف الحرب بشكل فوري؟.
على الرغم متابعة الرئيس بايدن لما كان قد بدأه سلفه الديمقراطي باراك أوباما بإستخدام أوكرانيا وعضوية الناتو في الحرب على روسيا, إلاّ أنه لا يمكن الجزم بإستمرار الوضع الحالي في حال فوز نائبته هاريس, وبأنه سيُسمح لـ بايدن بحرية القرار خلال الستة أشهر المتبقية من ولايته, ولا بد من مواجهة الحقائق وما تحقق فعلياً على الأرض, كإستعادة روسيا شبه جزيرة القرم, وإعادة إنضمام جمهوريات إقليم الدونباس إلى الجسم الروسي, كذلك الأمر بالنسبة للهزائم الأوكرانية, رغم الدعم الأمريكي والأوروبي والإسرائيلي لحكومة وقوات كييف, ولن يكون من السهل على بايدن وصحبه الخروج بنصرٍ ميداني خلال ما تبقى من ولايته مهما كان صغيراً.
في حين يبدو ترامب أكثر ثقة بنفسه وبقدرته على انهاء الحرب وفرض السلام, خصوصاً مع اختياره جي دي فانس نائباً له, وهو المعروف بمعارضته لإستمرار دعم أوكرانيا, ولن يكون من الصعب على ترامب ونائبه تقديم أوكرانيا المهزومة أصلاً لروسيا مقابل مصالح أمريكية قد لا تكون محصورةً في أوكرانيا فقط, وكذلك بفرض التغيير الداخلي واستبدال زيلينسكي والعشرات من قادته العسكريين ومسؤولي حكومته, وتحويل الحرب العسكرية إلى جزء من الماضي.
وفي هذا السياق أكد “سكوت ريتر”, ضابط الإستخبارات الأمريكي السابق بأنه “اّن أوان قبول العرض الروسي , وهو أفضل صفقةٍ يمكن لزيلينسكي الحصول عليها” , وبأن “الناتو لن يمنحه ما يريد ولن يعرض على كييف عضويته أبداً”.
إن إعلان الرئيس بوتين في منتصف يونيو/حزيران مبادرةً لإنهاء الصراع بشكل سلمي في أوكرانيا, أربكت السلطات الأوكرانية وداعميها, كونها تشترط موافقة كييف على سحب قواتها من دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابورجيا، وتخليها عن تطلعاتها للانضمام إلى الناتو, وبرفع العقوبات الغربية على روسيا, وأنه بمجرد قبولها وبدء انسحابها الفعلي من هذه المناطق، وإعلان تخليها الرسمي عن الإنضمام إلى الناتو، ستُصدر روسيا على الفور أمراً بوقف إطلاق النار وبدء المفاوضات.
في وقتٍ أكد فيه المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، أن عملية السلام هي الخيارالأفضل لحل الصراع في أوكرانيا, بالتزامن مع إقرار الخارجية الأمريكية على لسان المتحدث ماثيو ميلر، بأن السلطات الأوكرانية “مستعدة للحوار مع موسكو”, ومع تأكيد وزير الخارجية الأوكراني ديمتري كوليبا من الصين, بأن كييف “كانت دائماً على استعداد للمفاوضات من أجل تحقيق سلامٍ عادل وطويل الأمد”.
لم يرحب زيلينسكي بمبادرة الرئيس بوتين, ووصل حد إعلانه رفضها في نهاية مؤتمر سويسرا في منتصف حزيران, مؤكداً أنه “لن يكون هناك سلام دائم بدون سلامة الأراضي الأوكرانية”, ومع ذلك ووسط الأجواء الدولية وتصريحات وزيرخارجيته كوليبا في الصين, بالإضافة إلى مواقف عدد من المسؤولين الأوكران, نفخ زيلينسكي نفساً جديداً وتحدث عن إمكانية القبول بمفاوضاتٍ سلمية مع موسكو، ومع الرئيس بوتين شخصياً, مؤكداً أنه “يتفهم الحاجة إلى إنهاء الصراع في أوكرانيا في أسرع وقت ممكن”, على رغم المرسوم الذي سبق وأصدره زيلينسكي بنفسه حول منع إجراء هكذا مفاوضات.
وسط أجواء وتقارير إعلامية شككت بحقيقة موافقة زيلينسكي, واعتبرتها ضبابية ولا تخلو من الفخاخ, كحديثه عن طرح مسألة تغيير حدود أوكرانيا للإستفتاء الشعبي, في محاولة للتهرب من مسؤوليته عن خسارة مناطق وأراضي, كذلك بالإعلان عن عزمه تقديم خطة عمل للسلام في أوكرانيا في نهاية تشرين الثاني القادم.
بات من الواضح أن زيلينسكي يبحث عن المزيد من الوقت للإستفادة من تزويده بالأموال والسلاح, وبأنه لا يزال يتكئ على دعم دول الإتحاد الأوروبي, ورئيسة المفوضية الأوروبية, والولايات المتحدة خصوصاً بعد حصوله على 10مقاتلات إف-16 كدفعة أولى من أصل 79 طائرة وعدت بها الولايات المتحدة, والتي ستكون برأي عديد المراقبين العسكريين أهدافاً سهلة بالنسبة للروس.
في وقتٍ لا يعتمد فيه وقف الحرب في أوكرانيا على رأي الشعب الأوكراني ونتائج الاستفتاء، بل على إرادة الولايات المتحدة والدول الغربية التي قررت خوض الحرب على روسيا بالأصالة أو الوكالة الأمريكية, كذلك لا يمكن إعتبار قبول زيلينسكي التفاوض وفق مبادرة الرئيس بوتين سوى بأنها محاولة للهروب من اتهامه برفض التفاوض والسلام, وسط نصيحة المندوب الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا “للإسراع بدراسة مقترحات السلام التي قدمها الرئيس بوتين”, ودعوات رئيس الوزراء السلوفاكي للتوصل إلى هدنة فورية, وإيمان رئيس الوزراء المجري بأن أوكرانيا “لن تصبح عضواً في الاتحاد الأوروبي وفي الناتو”.
لا يمكن الرهان على ما تبقى من ولاية الرئيس جو بايدن, لبدء مفاوضات السلام في أوكرانيا, ولن يمنح المرشح الجمهوري دونالد ترامب خصومه الديمقراطيين والرئيس بايدن والمرشحة كاملا هاريس التي يصفها بـ “الضاحكة”, فرصة تحقيق هذا الإنجاز, وهو الذي يحتفظ لنفسه بحصرية وعوده بإنهاء الصراع “بيومٍ واحد”, في حال وصوله إلى البيت الأبيض ثانيةً.
يبدو أن طريق السلام في أوكرانيا لا زالت متعرجة, ولا بد لقطار السلام المرور بمحطات الشرق الأوسط والصراع العربي– الإسرائيلي, والتوقف في محطات رئيسية كأنقرة وطهران وبكين وبيونغ يانغ , قبل أن ينتهي في موسكو وعواصم الناتو والإتحاد الأوروبي وواشنطن.
دائماً هو قدرأوكرانيا التي ارتضت منذ عام 2014 ركوب إعصار الناتو المتجه شرقاً, والسير وفق مخططات الإدارات الأمريكية المتعاقبة, والذي بات يفرض عليها استمرار الصراع وإنتظار ما ستؤول إليه نتيجة الإنتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة, والإعلان عن سيد البيت الأبيض الجديد, كي تبدأ قصة السلام في أوكرانيا.
* كاتب وباحث استراتيجي