عندما اقتربت طلائع داعش من محافظة بغداد، بعد أن بسطت سيطرتها على المحافظات الغربية للعراق – وكانت مؤامرة محكمة التدبير- وأصبح الوضع حينها لا يحتمل تأخير التحرّك، لمواجهة الوباء الإرهابي القادم من سوريا، لم يكن هناك من يجرؤ على اصدار فتوى بالدفاع المقدس غير السيد السيستاني، ولم تجد تلك الفتوى المهمة في تاريخ العراق المعاصر، سوى خيرة شباب العراق، الذين هبوا ملبّين نداء المرجعية الحكيمة، فانضموا متطوعين في الحشد، للدفاع عن المقدسات، وكانت جمهورية إيران الإسلامية حاضرة في موقف عبّرت فيه عن تضامن أخوي صادق، ففتحت مخازن أسلحتها، وقدّمت خبرات كوادرها العسكرية وكانت سببا في تسريع تنامي قوة الحشد، من أجل الدفاع عن العراق، في وجه خوارج العصر، ولم تبخل إيران بتضحية أو جهد من أجل ازاحة الخطر الارهابي الوهابي .
ولم تكن داعش منذ تأسيسها، سوى صناعة أمريكية صهيونية، حركتها مخابرات البلدان المستفيدة من وجودها على الاراضي السورية والعراقية، ولم يكن التحالف الذي أسسته أمريكا، بدعوى محاربة داعش، سوى منظومة لوجستية، قامت من أجل حماية داعش، ونقل عناصرها من مكان الى آخر لتنفيذ مخططاتهم، وتاريخ القوات الامريكية في العراق بعد حرب الخليج الثانية، لمن اطّلع على تفاصيله الدقيقة، أشد قذارة منها في الحربين الكورية والفييتنامية، يكفي أن نفتح ملف سجن أبو غريب، وانتهاكات حقوق الانسان الفظيعة بحق العراقيين أينما وجد أمريكي، وسرقة أطنان من احتياطي ذهب البنك المركزي العراقي، وكنوز القصور الرئاسية العراقية.
رغم كل الجرائم التي ارتكبتها امريكا على الاراضي العراقية بحق العراق، ارضا وشعبا وتاريخا، واستمرار تواجدها العسكري في شكل قواعد منتشرة في كردستان والمحافظات الغربية، معرقلة كل عمل وطني يراد منه استقلال العراق، وعزة أهله وتطهير أراضيه من أي تواجد عسكري، يفقد بلاد الرافدين كرامته، فقد بقي التواجد الامريكي هناك بلا ردّة فعل ولا محاسبة، تدفع نحو اجلائه من مواقعه التي تمركز فيها، قضاء لمآربه وليس حبا في العراق.
أمريكا التي لم يكن لهمّ تواجدها العسكري في العراق، وغيرها من دول الخليج، سوى نهب خيرات البلدان المحتلة من نفط وغاز، قد تسببت في قتل قرابة المليون عراقي منذ تدخّلها السافر بالعراق، ترى بعين العملاء وعديمي الضمير صديقة وحامية وحليفة لهم، بينما ترى ايران بنفس تلك العين الخاسئة المشيحة عن الحق، عدوّة لا مكان لها بينهم، مع أنه لم يصدر منها ما يفيد ذلك الانطباع الخاطئ.
ما حصل هذه الأيام في العراق من تظاهرات مطلبية شعبية، منادية بالإصلاح ومكافحة الفساد، كان مشروعا في إطاره الاستحقاقي، ومستحقا نظرا لكثرة الفساد المستشري بين أوساط ساسته هناك، الذين اختارهم العراقيون أنفسهم، اختيارا عشائريا وطائفيا ومصلحيا، خارجا عن اطار الوطنية، من الغباء أن تتحمل ايران مسؤوليته ونتائجه، في نظر هؤلاء الذين صبّوا جام نقمتهم وغضبهم، على التمثيل الدبلوماسي الايراني في البصرة أوّلا، ثم كربلاء ثانيا، والنجف الأشرف أخيرا، فهل ذنب ايران أنها تعاملت دبلوماسيا مع ممثلي الشعب العراقي؟ أم أنها كانت مطالبة بوقف التعامل معهم، قبل أن يحسم فيهم الشعب العراقي أمره؟ لا اعتقد أن عاقلا يقبل مثل هذه التجاوزات الدبلوماسية، خصوصا اذا كانت مستبقة لرأي الشعب، مهما كانت درجة صلاحها.
لقد اثبت الاعتداء المرتكب بحق التمثيلية الدبلوماسية الايرانية بكربلاء، ومهاجمة مقرات الحشد الشعبي، وقتل الأخوين الشهيد القائد أبو جعفر وسيم العليباوي، وأخيه عصام من الحشد الشعبي بدم بارد، واحراق القنصلية الايرانية بالنجف، أنّها سلسة من الأعمال الإرهابية التي وقع التخطيط لها أمريكا وصهيونيا، من أجل أن تظهر وسط تعابير شعبية، على أساس أنها نابعة من متظاهرين، في مناطق معروفة بانتمائها الشيعي، وما أريد ايصاله للعالم، بأنه ثورة وانقلاب على القيم الاسلامية الشيعية نفسها، من داخل الطائفة، متجاوزا الخطوط الحمر في الاستخفاف بمقدسات المسلمين الشيعة.
إن من دعا أول مرة الى نزع سلاح المقاومة في لبنان، هو نفسه الذي اعاد الطلب بخصوص حشد العراق، بكل الخبث الذي سيطر على عقله وقلبه، والعقبة الوحيدة التي تقف حائلة دون اتمام صفقة القرن، هو محور المقاومة الذي أسسته ايران الإسلامية، بمعيّة شرفاء الامة، الذين رفضوا اطار التطبيع مع الكيان الصهيوني، وأصرّوا على مواصلة نهج المقاومة، الذي دعا اليه الامام الخميني رضوان الله عليه، ويقوده اليوم الامام القائد السيد الخامنئي.
شرفاء العراق اليوم مطالبون بالاعتذار عما فعله السفهاء في هذه البلد، وأكثر من ذلك اثبات أن ما حصل من اعتداءات هي خارجة عن ما ألفه الشعب العراقي في احترام اشقائه الإيرانيين ومودّتهم الواجبة، بما قدموه من تضحيات وجهود وتنازلات، من أجل أن يكون العراق حرّا أبيّا آمنا مزدهرا، وليس العراق وايران سوى عمقين استراتيجيين لبعضهما البعض، وشعبين عريقين متداخلين ومشتركين في التاريخ والحضارة والدين، وعمليات الاستعداء والتحريض التي استهدفتهما في الآونة الأخيرة، تهدف الى فصلهما عن بعضهما، واحداث قاعدة اشتباك بينهما، على غرار ما حصل في الحرب العدوانية، التي شنها الطاغية صدام ضد ايران الاسلامية، ولم ينجح في تحقيق ما كان يرجوه الأمريكان من اسقاط النظام الاسلامي.
كل ما أرجوه، أن ينجح الشعب العراقي في اخراج القوات الامريكية من بلاده، واخلاء قواعدها التي تشكل خطرا محدقا بالمنطقة بأسرها – وهو عمل مهمّ جدا وليس سهلا تحقيقه – ووجود تلك القوات هو لمصلحة أمريكا والكيان الصهيوني وفقط، وهي السيف المسلط على رقاب أحرار هذه الأمة، بما فيها الشعب العراقي الأبيّ.
فهل سيقلب السحر الذي جاء به عملاء أمريكا الى العراق، ليمحو الصورة السيئة التي رسمها هؤلاء الاوغاد في الإساءة الى إيران الاسلامية، ويثبت الصورة الحقيقية للعراق الذي لا يتجزأ عن إيران في سرّائه وضرائه.