لم تكن مجزرة قانا الأولى التي ارتكبها جيش الاحتلال «الإسرائيلي» قبل ربع قرن (18 نيسان/ أبريل 1996) مجرد مجزرة أخرى من مجازر العدو التي بدأها في فلسطين ووسّعها لتشمل لبنان وسورية ومصر وتونس والعراق وغيرها فقط، بل كانت أيضاً محطة سياسية بالغة الأهميّة تركت دلالات فارقة في تاريخ الصراع العربي – الصهيوني المستمرّ منذ أكثر من قرن من الزمان…
أولى الدلالات هو أنّ تلك المجزرة التي جاءت في سياق عدوان صهيوني على لبنان (عملية عناقيد الغضب) – بدأ في 11 نيسان/ ابريل عام 1996 ـ وأتى في إطار تنفيذ مقررات مؤتمر «دولي» انعقد في 22 آذار/ مارس من العام ذاته في شرم الشيخ بحضور 30 دولة عربية وأجنبية، بما فيها الكيان الصهيوني نفسه والرئيس الأميركي كلينتون، والرئيس الروسي يلتسين، والرئيس الفرنسي شيراك ودول «التطبيع» العربي العلنيّة، و»السريّة» يومها، وكان عنوان المؤتمر «مؤتمر صانعي السلام» ليؤكد انّ «السلام» كما تفهمه تل أبيب وحلفاؤها هو حرب مستمرة على الفلسطينيين والعرب، وانّ «المؤتمرات الدولية» لم تنعقد حتى الآن إلا لخدمة الإرهاب الصهيوني والمشروع الاستعماري بغطاء «فلسطيني وعربي»…
ثانية تلك الدلالات هي أنّ المؤتمر الذي مهّد لعدوان نيسان 1996 على لبنان بهدف القضاء على المقاومة، قد أدّى الى نتيجة معاكسة حيث انعقد «تفاهم نيسان» برعاية فرنسية وأميركية وهو «التفاهم الخطي» الذي كرّس تفاهماً شفهياً جرى التوافق عليه في حرب تموز 1993 على لبنان (عملية تصفية الحساب) يحول دون أيّ اعتداء «إسرائيلي» على المدنيين في لبنان، بل يكرّس شرعية المقاومة وحقها في الردّ على أيّ عدوان صهيوني، والاحتلال هو بطبيعته عدوان يفرض مقاومته…
ثالث الدلالات كان انّ «تفاهم نيسان» لم يكن ليقوم أصلاً، لولا وحدة الموقف الرسمي والشعبي اللبناني الرافض لذلك العدوان، ولولا المساندة السياسية واللوجستية الكبيرة التي قدّمتها دمشق وطهران وفصائل المقاومة الفلسطينية دعماً للبنان ومقاومته للعدوان، وكلنا يذكر كيف اضطر وزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك وارن كريستوفر للعودة الى دمشق بعد صمود المقاومة ليباشر اتصالاته لوقف الحرب بعد أن كان قد أبلغ وزير الخارجية السوري آنذاك الأستاذ فاروق الشرع مع بدء العدوان أنه ذاهب في جولة آسيويّة، وأعطاه رقم هاتفه في حال احتاجت دمشق إليه للاتصال به والاستنجاد به لوقف العدوان… فجرت الأمور على عكس ما توقع كريستوفر واضطر هو للعودة والمشاركة في مشاورات مع سورية والحكومة اللبنانية (التي كان يرفض الاجتماع بها في البداية كما كان يرفض أيّ دور لفرنسا في المشاورات الجارية بعد أن كان وزير خارجيتها دو شاريت مرابطاً لأيام طويلة في دمشق التي أصرّت على إشراكه في الحلّ) وهي المشاورات التي أدّت الى «تفاهم نيسان».. وإعطاء دور لواشنطن وباريس في الإشراف على تنفيذه..
اما الدلالة الرابعة أنّ تلك الحرب التي شنّتها حكومة شمعون بيريز «رجل الاعتدال الإسرائيلي»، وصاحب مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، كانت موازية لحرب مماثلة كان قد شنها الصهاينة ضدّ المجاهدين الفلسطينيين بعد قيامهم بسلسلة من العمليات الاستشهادية، وهي حرب لم تحتجها تل أبيب لضمان «الأمن والاستقرار» في الكيان الصهيوني فحسب، بل كان بيريز وحزبه «العمل» «المتضائل تأثيره اليوم»، يحتاجان اليها للفوز في انتخابات 1996 التي كانت كلّ الاستطلاعات فيها تشير الى تقدم حظوظ نتنياهو مرشح «اليمين المتطرف» والذي فاز فعلاً في تلك الانتخابات التي جرت بعد أسابيع من العدوان في لبنان، وهو ما يؤكد قولاً شهيراً لكيسنجر بأن «ليس هناك من سياسة خارجية في الكيان الصهيوني، بل إنّ السياسة الداخلية هي التي تقرّر تلك السياسة». مشيراً الى التنافس الانتخابي داخل هذا الكيان والذي تشير كلّ التحليلات الى أنه مقبل على «انتخابات خامسة» هذا العام، بعد أربع انتخابات خلال عامين، لم يستطع معها تشكيل حكومة، وهو أمر لم يكن معروفاً في تاريخ الكيان لولا اهتزازه بفعل تصاعد قوة المقاومة داخله وحوله، ولولا المتغيّرات المتسارعة في موازين القوى المحلية والإقليمية.
الدلالة الخامسة كانت في صمود المقاومة اللبنانيّة وحلفائها بوجه العدوان الصهيوني، (الذي كان في السابق لا يحتاج «لأكثر من كتيبة مجنّدات على دراجات هوائيّة لتحتل لبنان» حسب قول موشيه دايان وزير دفاع العدو عام 1967) هو مقدمة لانتصار هذه المقاومة بكلّ أجيالها ومكوّناتها، في تحرير الأرض عام 2000، وفي ردع العدوان عام 2006، وفي تأسيس معادلة ردع ما زال لبنان ينعم بمفاعيلها منذ 16 عاماً.
الدلالة السادسة هي أنّ ايّ حديث من ان «المجتمع الدولي» قادر على ردع التوحش الصهيوني، الذي تجلى في العديد من المجازر، حديث مناقض للواقع تماماً، فهذا «المجتمع» الممثل بالأمم المتحدة ما زال عاجزاً، انْ لم يكن متواطئاً، امام هذا العدو حسب العديد من الأدلة الموثقة وأولها تنكر تل أبيب للعديد من قرارات الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وسائر المنظمات الدولية المنبثقة عنها، بما فيها القرارات المتعلقة بعودة اللاجئين (القرار الأممي 194) وقيام دولة فلسطينية ورفض ضمّ القدس والجولان، والانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967، والقرار الشهير الذي دعا تل أبيب الى الانسحاب الفوري من الأراضي اللبنانية التي احتلتها عام 1978 والذي بقي دون تنفيذ لـ 22 عاماً لولا المقاومة التي نجحت في تحريرها عام 2000.
فالقرارات الدولية ضدّ الاعتداءات والاحتلال الإسرائيلي، في ظلّ السياسة الأميركية وحلفائها، قرارات غير قابلة للتنفيذ، إلا اذا اقترنت بقوة عربية تضع حداً للغطرسة الصهيونية وهذا ما رأيناه في سيناء مصر وبعض الجولان بعد حرب 1973، والتي جرى اغتيالها سياسياً في معاهدة «كمب ديفيد»، وفي لبنان بعد مقاومة استمرت 22 عاماً.
وقد جاءت الغارة الجوية على مقر الأمم المتحدة في قانا، حيث لجأ العديد من العائلات الجنوبية التي ظنت أنّ هناك حصانة دولية لهذا المقر، لتظهر مدى استهتار العدو الصهيونيّ بالأمم المتحدة، حتى لا نقول احتقاره لها رغم ما تقدّمها له، ناهيك عن انحيازها الفاضح لتل أبيب حين رفضت المنظمة الأممية تقرير الأمم المتحدة حول مسؤولية العدو في تلك المجزرة رافضة التمديد للمشرف على التقرير وهو أمين عام الأمم المتحدة الدكتور بطرس غالي رغم الخدمات «الجليلة» التي قدّمها لواشنطن في «كمب ديفيد «وبعدها…
نستعيد هذه «العلامات – الدروس» ونحن نترحّم على شهداء مجزرتي قانا الأولى (عام 1996) والثانية (عام 2006) وشهداء المجازر الأخرى قبلهما وبعدهما، وعلى كافة شهداء المقاومة العربية من فلسطين الى لبنان الى العراق الى سورية ومصر وتونس واليمن وليبيا والسودان وكلّ أقطار أمتنا العربية.
ويكتسب التذكير بهذه الدروس – الحقائق اليوم في ظلّ مواجهة عدوان جديد على لبنان، هو عدوان الخبز والدواء والفساد والجشع والجوع والفقر، عدوان الحصار والدولار والغلاء المرعب في الأسعار، والذي يهدف الى أن يحقق بالاقتصاد ما عجز عن تحقيقه بالحروب والسياسة…
وكما كان الفشل مصير كلّ عدوان سابق، سيكون الفشل مصير كلّ عدوان نراه اليوم على لبنان وفلسطين وسورية والعراق واليمن ومصر وكلّ قطر عربي…
فهذه أمة يشهد لها تاريخها أنها عرفت هزائم عدة في جولات وفي معارك، لكنها كانت في النهاية تنتصر دائماً في حروبها على مستعمريها وأعدائها، بإذن الله وهمة المقاومين وكافة شرفاء الأمة وأحرار العالم.
(البناء)