بينما كانت تجرى مناقشات حزبية واسعة فى مقاطعة «سعرت» بشرق تركيا عام 2015 حول تحول أردوغان من رئاسة وزراء تركيا إلى الرئاسة ــ والتى كانت وقتها منصبا رمزيا بصلاحيات ضعيفة ــ وبينما كان الجدل محتدما حول حكم أردوغان الفعلى من وراء الستار وتحكمه فى رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو، خرج رئيس حزب العدالة والتنمية فى المقاطعة فؤاد جلاب أوغلو بتغريدة على حسابه الموثق بموقع «تويتر» يوم 18 مارس من هذا العام قائلا بالتركية (بحسب ترجمة جريدة حرية التركية والتى نقلتها عن طريق واشنطن بوست فى مقال نشر فى اليوم التالى بتصرف):
«لقد شككوا فى قدرته (أى أردوغان) فى أن يكون موظفا محليا، ثم شككوا فى أن يقدر على مهام رئاسة الوزراء، والآن هم (المنتقدون) يشككون فى قدرته على القيام بمهام الرئاسة.. ولكن الخليفة قادم فاستعدوا».
***
وبعد أن نجح أردوغان بالفعل فى تغيير الدستور وتحويل النظام البرلمانى التركى إلى نظام رئاسى بصلاحيات واسعة للرئيس ومد فترات حكمه، فإنه وبحسب الكاتب التركى عبدالله بوذكورت فى مقال نشره بتاريخ 27 نوفمبر عام 2018 فى موقع «Turkish Minute» فإن اجتماعا قد جرى فى إسطنبول وضم العديد من مؤيدى أردوغان فى حزب العدالة والتنمية بالإضافة إلى العديد من النشطاء المسلمين من حول العالم للتفكير فى إنشاء نظام مماثل للجامعة الإسلامية الذى أعلنه عبدالحميد الثانى فى سبعينيات القرن التاسع عشر بعد قيامه بالإطاحة بالبرلمان المنتخب والدستور، بحيث تعلن هذه الوحدة الإسلامية فى الذكرى المئوية لانهيار الخلافة العثمانية أى فى عام 2023 وبحيث يصبح أردوغان زعيما لهذا التجمع فى منصب مشابه لمنصب الخليفة! هذا الاجتماع والنية من ورائه (بحسب بوذكورت) أكدها لاحقا النائب السابق فى حزب العدالة والتنمية نور الدين نيباتى والمقرب من أردوغان معلنا أن الاجتماع كان بهدف التفكير فى إنشاء «كونجرس للوحدة الإسلامية» بحلول عام 2023 يترأسه أردوغان!
والحقيقة أن شواهد عديدة منذ عام 2017 مرتبطة بخطب أردوغان العامة ومواقفه المعلنة تؤيد بالفعل أنه يطمح إلى استعادة لقب الخليفة الذى يترأس مجلسا للوحدة الإسلامية! والغريبة أن أردوغان يسير على خطى عبدالحميد حرفيا؛ حيث إنه يطمح لإنشاء هذه الوحدة على أنقاض نظام ديمقراطى قد هدمه بيده ــ بعد أن ساهم فى بنائه بيده ــ تحت دعوى تهديده للإسلام أو معاداة للأمن القومى ــ لاحظ أن هذا خطاب عبدالحميد الثانى حرفيا، وقطعا انتهى الأمر بخلع عبدالحميد الثانى بعد أكثر من 30 عاما من حكمه بانقلاب عسكرى!
***
بغض النظر عن مآل أردوغان، ومستقبل مشروعه للخلافة، إلا أن المؤكد أنه ومنذ انتهاء الخلافة العثمانية فإن أحلام الخلافة قد ظلت تراود المسلمين إما لاعتقاد بعضهم أنها واجب دينى، أو لأنها تشكل حجر الزاوية لوحدة المسلمين المنشودة، أو لأن هناك اعتقادا أن العودة للخلافة تعنى العودة للدين، وطالما أن سبب تخلفنا هو بعدنا عن الدين (كما يعتقد الكثيرون)، فالعودة للخلافة تعنى العودة للتقدم والنهضة، إنها ببساطة العودة إلى الله فى نظر هؤلاء!
الحقيقة أن هناك ثلاثة أسباب إضافية لتعلق الكثير من المسلمين بفكرة الخلافة، السبب الأول أن السردية المثالية لتاريخ الخلافة الإسلامية قد قامت بشكل انتقائى بتنقية التاريخ من الشوائب وإعادة تأويل الأحداث لتبدو مثالية، بل وفى بعض الأحيان، تم لوى عنق الحقيقة كى يتم محو الخطايا، فعدد معتبر من الكتاب الإسلاميين، يتباهون ــ مثلا ــ بإراقة بعض الخلفاء للدماء، بما فيها دماء أهلهم وأفراد أسرتهم، طالما أن ذلك تم لمصلحة عليا، أو لطالما أن الخليفة فتح المزيد من البلاد!
أما السبب الثانى فهو تصادم المسلمين مع فكرة الدولة القومية والتى جاءت لهم باعتبارها حداثة سياسية مرتبطة بالغرب المستعمر، مما ولَّد كرها كبيرا لفكرة الحدود والمواطنة، والاعتقاد أنها جاءت بالأساس لمحو الوجود الإسلامى ووحدة المسلمين! والحقيقة أن ذلك التصادم بين الإسلاميين والحداثة يحتاج إلى مقالات منفصلة وكتب فيه كثيرون، لكن المؤكد أنها لولا فكرة الحداثة السياسية وفى القلب منها الدولة القومية، ما كان لدول «إسلامية» كثيرة أن تظهر على الخريطة من الأصل! لو لم تكن الدولة القومية ما كانت السعودية أو باكستان أو بنجلاديش مثلا، الحقيقة أن المسألة برمتها تحتاج إلى مراجعة، فكما كانت الخلافة ضرورة تاريخية، كانت الدولة القومية كذلك، وما لم تكن هناك دولة قومية، لضاعت أصلا معانٍ كثيرة مثل مقاومة الاستعمار والتحرر وتقرير المصير.. إلخ.
وأخيرا يأتى السبب الثالث فى أزمة الهوية التى يعانى منها الكثير من المسلمين اليوم، وسبب هذه الأزمة الواضح هو ذلك التناقض بين تراث وفقه لا يجددان فى مقابل تطورات حضارية وإنجازات إنسانية جمة لم يساهم فيها المسلمون (كحضارة وليس كأفراد) إلا بأقل القليل فى آخر سبعين عاما تقريبا، فمعظم المنجزات الصناعية والعلمية والتكنولوجية والإنسانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أنتجتها الحضارة الغربية المسيحية (الكاثوليكية والبروتستانتية) والحضارات الآسيوية (الكنفوشية / الشنتوية والهندوسية)، بينما لم يكن للمنظومة السياسية والعلمية والثقافية الإسلامية إسهامات كبيرة فى هذا الإطار!
الأزمة، أنه وفى مواجهة هذه الحقيقة الأخيرة، يتخذ معظم المسلمون اليوم موقفين متناقضين، ففريق منهم قرر الهروب من الواقع الحضارى والعودة إلى الصحراء وثقافتها وأدواتها ونظمها القبلية خالطين فى ذلك بين التاريخ والجغرافيا، فأنتجوا لنا منظومة متخلفة حضاريا تغرق فى التفاهات والسطحيات وتدعم الظلم والعدوان والتطرف، فى مقابل ذلك فريق آخر من المسلمين شديد العداء للحضارة الإسلامية، لا يرى فيها إلا سببا لكل تراجع وتخلف، مفتونا بالغرب، غير قادر على تقييم الآخر بشكل حضارى!
فى البلاد الإسلامية التى عشت فيها فترات طويلة، دائما ما قابلت هذين الفريقين، فريق منعزل تماما عن (الكفار) محرما الاختلاط بهم ونافرا من ثقافتهم ومدعيا أن مهمته هى «هداية» هؤلاء غير منتبه إلى تلك الفروق الحضارية الرهيبة التى أنتجت نظما سياسية وقضائية واجتماعية أكثر عدلا من بلاده التى تدعى تطبيق الشريعة الإسلامية، أو فريق آخر منسحق تماما أمام الآخر ومنسلخ تماما عن حضارته وقيمها!
***
الحقيقة أن أفكار الوحدة الإسلامية فى حد ذاتها لا توجد بها مشكلة، لكن المشاريع المطروحة لتطبيقها هى إما مشاريع وهمية ساذجة غير قابلة للتطبيق تسمعها عادة فى خطب الجمعة، أو مشاريع شديدة الدموية والتطرف والعداء للآخر تجدها عادة عند الجماعات الإرهابية المتطرفة، أو مشاريع تحمل طابعا استعماريا ومطامع إقليمية لا تخلو من نعرة قومية مستترة تجدها عن الخليفة المنتظر أردوغان!
الطريق الأوقع نحو استعادة الهوية والحضارة الإسلامية يجب أن يمر فى رأى بأربع مراحل أساسية متوازية:
مرحلة التواضع والتخلى عن مفاهيم السيطرة والنفوذ والانتصار التاريخى الموعود، فلا أستاذية للعالم، ولا انتصار مطلق فى آخر الزمان، ولا رغبة فى محو الآخر أو فى تحويله إلى الإسلام، فالحق هو ما يقتنع به البشر، وهو فى عصرنا الحالى ما ينتصر للجمال والرقى والحضارة والتكنولوجيا والعدل والرحمة والحرية والتعددية والديمقراطية، والحق بذلك ليس قاصرا على دين بعينه، ولكنه قابل للتحقق عند كل الأديان بنفس القدر متى قرر أتباع هذه الأديان المساهمة والمحاربة لتحقيق وإعلاء هذه القيم، ومن ثم، فمهمة المسلم المقدسة ليست الدعوة إلى دين الله، كما أن مهمة المسيحى ليست التبشير، ولكن المهمة هى الإسهام فى التطور البشرى وهو المفهوم المتطابق مع «تعمير الأرض» وهو المبدأ الأعظم فى رأى الذى جاء به الإسلام.
مرحلة التطبيع؛ حيث يتم مصالحة التراث على الحاضر، ومصالحة الفقه على العلم، وتنقيح الفتاوى بما يتوافق مع مبادئ الإسلام لا مبادئ السلطان! هذا التطبيع مهم وضرورى، لأنه لا يمكن استعادة الهوية لدين يعتقد عدد كبير من أتباعه أنه ولد غريبا وسيعود غريبا، هذه الغربة المتخيلة لن تؤدى سوى إلى المزيد من الانفصال بين المسلم والواقع، فيتحول المسلمون تدريجيا إلى مجموعة من المذعورين من أى تطور سياسى أو اقتصادى أو علمى، مدعين أنه إما أنه يناقض الإسلام، أو أن الإسلام هو «أول من تحدث عنه أو اكتشفه»! هذه حالة إنكارية ودفاعية لتفادى مواجهة الحقيقة ولا سبيل من التخلص منها إلا بأن يبدأ الفقه من الخلف لا السلف، من الحاضر لا الماضى، من الإنسان لا من الملائكة والرسل! هذه بديهيات أى تجديد مزمع، حاجة البشر المعاصر ومبادئ الدين هما البوصلة لاستعادة الهوية الإسلامية وتطبيعها بروح العصر!
مرحلة إعادة التعريف، مفاهيم كثيرة لابد من إعادة تعريفها، ما المقصود تحديدا بالوحدة الإسلامية فى المجتمع المعاصر؟ هل هى وحدة ثقافية/ حضارية، أم وحدة سياسية، أم وحدة اقتصادية؟ الحقيقة أن الوحدة السياسية المفترضة فى نظام الخلافة هى محض أوهام لم تحدث منذ مقتل «على» وربما حتى قبل ذلك، ولن تحدث مستقبلا، أسطورة يطاردها بعض المسلمين وهى ليست أكثر من سراب، حتى فى أوج الحضارة الإسلامية، لم تتمكن الخلافة أبدا من توحيد المسلمين. الأجدى هو البحث عن الوحدة الحضارية وربما التنسيق الاقتصادى لا أكثر!
مرحلة الاعتراف، الاعتراف بأن الخلافة تاريخيا لم تكن إلا نظاما قبليا سلطويا، ربما ناسب عصره لكنه لا يمكن أن يناسب العصر الحالى، الاعتراف أن الحضارة الإسلامية كما أسهمت فى تطور البشرية، فقد أسهمت حضارات أخرى غيرها، وأن الحضارة الإسلامية توقفت عن هذا الإسهام منذ قرون طويلة لا بسبب البعد عن الله، ولكن بسبب التخلف الحضارى والعيش فى أساطير الماضى والإصرار على مقاومة التحديث، ولو أراد المسلمون العودة للمساهمة، فعليهم العودة للعلم والأخذ بأسباب التقدم، لا أن يجلس أحدهم فى مكتبه منتظرا أن يكتشف العلماء الظواهر والقوانين العلمية ليجرى مدعيا أن الإسلام قد اكتشفها منذ قرون! هذا نصب ودروشة وادعاء، المسلم لا يحتاج إثبات علمى أو غير علمى ليؤمن بالدين، لأن الدين الإسلامى مثله مثل كل الأديان موضعه هو القلب والإيمان، لا المعامل والمختبرات والمعادلات الرياضية!
هذا هو الطريق لو أراد المسلمون جادين أن يتقدموا ويتطوروا.
* أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر
المصدر : الشروق المصرية