بقلم د. عادل بن خليفة بالكحلة (باحث إناسي، الجامعة التونسية) |
إنه قانون يستنسخ النظام القديم الذي كان سائدا في فرنسا قبل الثورة الفرنسية، والذي كان مبنيا على
التراتب الامتيازي.
إنه قانون سيميز الشرطة على عموم الموظفين، كما سيميزهم على عموم الشعب.
إنه قانون سيجعل الشرطي ليس عونا منتميا إلى الشعب، بل سيجعل بعض الشرطيين استعلائيين.
والأدهى أن مشروع هذا القانون يميز عائلة الشرطي-أيضا- حيا و ميتا. وهذا ليس في مصلحة هذا
القطاع الذي يعز علينا جميعا، فمصلحته تكمن في اندماجه بالدورة المهنية والدورة النفسية للحياة
اليومية الشعبية.
يجب أن لا نميز بين موظف الدولة وغيره، لأن للفلاح -مثلا- قيمةاجتماعية عالية، وربما أعلى من
قيمة موظف الدولة، لأنه الْمُوَكَّل الاول على استمرار الحياة. وربما كانت القيمة الاجتماعية للمعلم أعلى
من أي قيمة اجتماعية للقطاعات المهنية لأنه الأمين الأول على هوية الجميع…
1) الخلفية الثقافية لقانون الامتياز الخصوصي:
من المعلوم أن هناك من عامة الناس من ظلموا الشرطة، واعتدوا عليهم، ويجب أن يحاسبوا باعتبارهم
معتدين على مواطنين مثلهم.
ولكن من المعلوم أن هناك شرطة اعتدوا على عامة الناس، ولم يحاسبوا إلى اليوم، بل جعلوا من
«شهداء الثورة وجرحاها»، بينما كانوا في ديسمبر2010 من قتلة الثوار.
ولا حق لأحد نقابي الشرطة في أن يقول بأحد الصحون التلفزيونية: «نحن نعرف من اعتدى
علينا واحدا واحدا، رغم لباسهم الكمامات، وسنعاقبهم بأنفسنا».
إنه ليس قاضيا لكي يقاضي. فمن حقه أن يطلب مقاضاتهم لدى السلطة القضائية، إذ هي وحدها التي تحتكر البت في النزاعات وتعاقب. فيجب أن يتخلى الشرطي عن توهم نفسه أنه«الحاكم»، إذ الحاكم هو رئيس الدولة أوالقاضي فحسب. كما نرجو أن يدافع نقابيوالشرطة عن منظوريهم بلطف ودون تشنج، حتى يكون مجتمعنا مجتمع تسالم وحوار وتشاركية.
من المعلوم أن الكثير من الفتن والاضطرابات الاجتماعية كانت نتيجة أنظمة قانونية امتيازية ، كبر حجمها أو صغر. ويمكننا هنا أن نرجع إلى اضطرابات فرنسا عام 1789 واضطرابات بريطانيا سنة 1645 و سنة1688.
لا أحد فينا غير مهدد من الارهابيين والمجرمين. فالمعلم والأستاذ والمثقف والطبيب والممرض، وناقل المواد الغذائية من مكان إلى آخر، والمرأة، وغيرهم، مهددون أكثر لأنهم دون سلاح.
ومن المعلوم أن المجتمع التونسي مازال يحمل شحنة عنف وعدوانية ذات ثقل تاريخي لدى كل الأصناف الاجتماعية من الأستاذ الجامعي إلى الشرطي والطبيب، نلمحها حتى في العنف اللفظي لدى الجميع (سب الجلالة ، سب الدين، سب أم الآخروأبيه…). ومعالجة هذه الشحنة لا تكون بالقوانين الزجرية أو الاستثنائية، بل تكون بإعادة تأهيل نفسي وتربوي للشخصية التونسية، ومنها شخصية الشرطي الذي ينبغي أن يؤهل مهنيا على معالجة الأمور باللين والحكمة والحوار، فمعالجة العنف بالعنف حتى الشرعي لن تولد إلا العنف المستديم… ويمكننا هنا أن نقوم بتربصات تأهيلية مع الشرطة السويدية والنمساوية والسويسرية، لا مع الشرطة الأمريكية والفرنسية التي تعودنا على التربص لديها منذ عهد سان سير…
وإذا كان هناك تمييز قانوني، فليكن للمعلم حصرا، الذي ربى الشرطي وكل أفراد الشعب، ونبقى مدينين له كل حياتنا. في اليابان، أعلى أجر شهري هو للمعلم. فهل إن شرطينا بَارٌّ دائما بالمعلم سواء عند تقديم الخدمة المدنية العادية له أو عندما يكون متهما حيث يضطر الشرطي لحجزه بطريقة حضارية ليس فيها إهانة؟!
قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا *** كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا
أَعَلِمتَ أَشرَفَ أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي *** يَبني وَيُنشِئُ أَنفُساً وَعُقولا
2 ) فصول قانونية غير خاضعة للعقل ولمشروع الدولة المدنية:
لنقرأ معا بعض فصول هذا المشروع الامتيازي:
” الفصل السابع:
لا يكون العون مسؤولا جزائيا عند قيامه بمهمات أو تدخلات أثناء آدائه لوظائفه أو في علاقة بصفته وكذلك في إطار تطبيق الأطر الترتيبية لصيغ التدخل المنصوص عليها بالفصل 3 من هذا القانون الذي يجد نفسه في وضعية مباغتة بسبب مواجهته لخطر محدق وجسيم ناتج عن اعتداء حاصل أمامه أو على وشك الحصول على الأشخاص أو المنشآت الأمنية، حتمت عليه التدخل باستعمال القوة المناسبة بواسطة السلاح أو بغيره من الوسائل بقصد منع ارتكاب جناية أو إعادة ارتكابها ضد الأشخاص أو المنشآت الأمنية ونتج عن ذلك أضرار مادية أو بدنية أو وفاة.”
الفصل التاسع:
يحكم بضعف العقوبة المستوجبة للجريمة إذا تعرض العون إلى اعتداء على معنى الفصل 219 من المجلة الجزائية وكان القصد منه إجبار العون على القيام بفعل من علائق وظيفته أو مهمته أو إجباره على تركه أو على أن يتجاوز سلطته ونتج عنه تشويه أو بتر عضو أو انعدام النفع به أو عجز مستمر للعون.
الفصل 13:
دون المساس بحرية الصحافة والإعلام وبالحقوق المتصلة بالنفاذ للمعلومة، يخضع لإذن مسبق من السلطة الإدارية المختصة التصوير أو التسجيل داخل المقرات والمنشآت وأماكن التدريب المشمولة بهذا القانون. وتضبط صيغ منح الإذن المسبق بمقرر من الوزير المعني.
ولا يخضع لإذن مسبق ولا يعاقب جزائيا من يقوم بعملية التصوير أو التوثيق أو النشر بقصد معاينة ارتكاب مخالفة أو جنحة أو جناية. وفي هذه الحالة يمنع حجز الآلاف والمعدات المستعملة لمعاينة الجرائم المذكورة.
ويعاقب بخطية قدرها خمس مائة دينار كل من تعمد مخالفة أحكام الفقرة الأولى من هذا الفصل بغرض التوثيق أو النشر.
وللمحكمة المتعهدة أن تقضي علاوة على ذلك باستصفاء الآلات والمعدات المستعملة لفائدة صندوق الدولة.”
إن الفصل السابع يتناسى أن كل موظفي الدولة وغير الدولة، وحتى كل أصناف العمال، معرضون أيضا إلى وضعيات مباغتة والخطر المحدق والجسيم عليهم وعلى منشآتهم… فلماذا التمييز هنا؟! ولماذا قانوننا يتناسى كثيرا الطبقة العاملة والعاطلين عن العمل والفقراء فلا يصدر فيهم قوانين تحميهم من التهديد المستمر لحياتهم ووجودهم؟!
كما أن الفصل السابع يتناسى أن كل تلك المخاطر التي نص عليها قد يتعرض لها أيضا أي مواطن، وقد حصل ذلك بالفعل مع أطفال قصر، ومع شيوخ ومع معوقين، ومع أهل القوة أيضا. فلماذا تمييز صنف مهني معين هنا؟!
كما أن الفصل الثالث عشر يمكن أن يستغل من طرف ذوي الاستراتيجيا التسلطية للبدء في سيرورة قمع الحريات الإعلامية و المدنية.
إن أمن رجل الأمن، بل أمننا جميعا، لا يكون إلا بفرض منوال تنموي عادل تمَّحي فيه المظالم الاقتصادية والتفاوت الجهوي، فالليبرالية المتوحشة هي الدافع الرئيس للعنف. ومن سوء الحظ أن رجل الأمن، مثل أصناف مهنية أخرى، كالقاضي والمعلم والأستاذ، هم محل وَهْم أنهم هم الحاكم والدولة المخلة بواجباتها، فتجعلهم قربانا للعنف حتى تكون هي بمنأى عنه…
3) ماهو مطلوب:
أ-دورة مكثفة للمصارحة بين الشرطة وبين الناس، ينقد فيه الطرفان بعضيهما، فهناك أحكام مسبقة مستحكمة علقت بينهما منذ أكثر من 400 سنة (4قرون!!).
ب- دورة مكثفة للمصالحة بين الطرفين.
ت- بناء عقد مدني بين الشرطة وبين الناس.
ث- استراتيجيا جدية لاقتلاع المخزون العنفي لدى التونسيين بمنوال تنموي عدالي، وبإعادة تأهيل نفسية-
تربوية-دينية تغنينا عن قوانين الحماية والزجر التي لا تغني ولا تسمن من جوع …
ج- لنعترف جميعا أمام الوطن، أننا جميعا ضعيفو الدافعية الوطنية، وضعيفو الشعور بالانتماء إلى الشعب التونسي. فما ينقصنا أساسا هو إعادة الانتماء إلى وطننا، وإلى أنفسنا باعتبارنا عائلة واحدة لا مجموعة أفراد أو طبقات متشظية… لنستمع جيدا إلى حجم الإحساس الوطني لأبي القاسم الشابي:
أَنَا يَا تُوْنُسَ الجَمِيلَةَ فِي لُجِّ *** الهَوى قَدْ سَبَحْتُ أَيَّ سِبَاحَهْ
شِرْعَتي حُبُّكِ العَمِيقُ وإنِّي *** قَدْ تَذَوَّقْتُ مُرَّهُ وَقَرَاحَهْ