بقلم : عمر حلمي الغول
شهد السودان منذ يوم الإثنين الماضي (3 حزيران/ يونيو 2019) تحولا دراماتيكيا في مسار الأحداث، حيث قام المجلس العسكري بفض الإعتصام الشعبي أمام مبنى القيادة العسكرية فجر ذلك اليوم، وعشية عيد الفطر السعيد، الذي أدى لوقوع 101 من الضحايا، والمئات من الجرحى، بعد ان أغلق العسكر برئاسة الفريق أول عبدالفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) باب الحوار مع قادة إعلان الحرية والتغيير، وأداروا الظهر للإتفاق المبدئي بتشكيل حكومة لقيادة المرحلة الإنتقالية لحين إجراء الإنتخابات البرلمانية، بسبب الإختلاف حول نسبة العسكر للمدنيين في الحكومة، حيث أصر قادة المجلس على أن تكون لهم اليد الطولى، وحصة الأسد فيها. لكن قوى التغيير الوطنية والقومية والديمقراطية من مختلف ألوان الطيف السياسي والنقابي رفضت سياسة الإلتفاف على منجزات الشارع السوداني، وأصرت على ان تكون الغلبة في الحكومة للمدنيين، ولم تقبل محاولات التشكيك بأية قوة من قواها، وإعتبرت الإتهامات الملقاة جزافا عليها، بإعتبارها “مرتبطة” باجندات خارجية، خطوة تمهيدية تصب في المآل، الذي وصلت له الحالة في السودان الآن.
وإتضح ان العسكر حاولوا إستنساخ وتكرار تجارب عربية سابقة في “ثورات الربيع العربي”، دون ان يحاولوا التمييز بين مكونات تلك الثورات، التي ركبت على رأسها جماعة الإخوان المسلمين، وبين قوى التغيير الوطنية والقومية والديمقراطية، التي تنادي بالتغيير الديمقراطي، والتخلص من حكم العسكر وجماعة الإخوان المسلمين، الذي قاده الرئيس المخلوع عمر حسن البشير طيلة 30 عاما، وبناء الدولة المدنية، دولة كل مواطنيها. مما اوقعهم ( المجلس) في شر أعمالهم، ووضعهم وجها لوجه في مواجهة الشعب السوداني وقواه الحية.
وإعتقد أعضاء المجلس العسكري انهم يستطيعوا من خلال دفع الأمور نحو دائرة الدم، وإغراق الشعب في متاهة الإصطدام مع قوات الجيش والمؤسسة الأمنية، ومستنقع الحرب الأهلية، من لجم إندفاع الشارع السوداني نحو اهدافه الوطنية والإجتماعية والإقتصادية والقانونية، وصولا لإسكات صوته عبر سياسة تكميم الأفواة، وترهيب الشعب بقوة البارود والعصا الغليظة. لكنهم فشلوا فشلا ذريعا، لإن قوى إعلان الحرية والتغيير لم تستسلم، ولم تتراجع عن أهدافها، ولم تذهب إلى حيث اراد العسكر وخاصة الرجل القوى في المجلس حميدتي، الذي تظاهر في البداية، انه مختلف عن اقرانه في المجلس العسكري، عندما حاولوا توزيع الأدوار فيما بينهم، غير انه سرعان ما إنكشف ديدنهم جميعا، وهدفهم الخبيث، واجندة مجلسهم العسكري العربية والإقليمية والدولية، وأصرت قوى إعلان الحرية والتغيير على التمسك بالنضال السلمي، رغم سقوط العدد الكبير من الشهداء والجرحى، ورفضوا الإنجرار إلى دوامة العنف والفوضى، وأعلنوا الإضراب والعصيان حتى تحقيق أهدافهم المشروعة والعادلة.
وللإسف ان بعض الأنظمة العربية بذريعة حماية السودان من الفوضى، دعمت المجلس العسكري السوداني، ودعمت سياسة تقويض الأهداف الوطنية والديمقراطية، لخشيتها من نجاح الثورة السودانية، وما قد يحمله نجاحها من إنعكاسات على المشهد العربي الرسمي البائس والمتردي، ومن إمكانية فتح الأفق نحو الموجة الثانية من الربيع العربي الحقيقي في عملية التغيير، التي بات من الواضح، انها قادمة وعلى نار متصاعدة. لإن الإنتكاسات، التي سببها ركوب جماعة الإخوان المسلمين للثورات السابقة، شكلت درسا مهما لقوى التغيير في السودان والجزائر مع الإختلاف النسبي بين النموذجين، ولكل القوى الوطنية والديمقراطية العربية، الأمر الذي يشير إلى ان الصراع الدائر في السودان يمثل عنوانا للمواجهة بين قوى الإستبداد بكل تلاوينها في مؤسسة النظام الرسمي العربي وقوى التحرر والتغيير الوطني والديمقراطي. وحتى لو حدث تراجع نسبي، أو إنتكاسة هنا أو هناك، فإن عملية التحول الديمقراطي ماضية قدما وبخطى بطيئة نحو مآلاتها.
مما لا شك فيه، ان ثورتي السودان والجزائر تحمل في ثناياها ملامح مرحلة جديدة في الواقع العربي البائس والمخطوف من قوى التخلف والتبعية للغرب الراسمالي وخاصة للإمبرالية الأميركية، التي لعبت دورا مركزيا في توسيع وتعميق عملية التمزق في النسيج الوطني والإجتماعي داخل كل دولة وشعب من شعوب الأمة العربية من خلال أدواتها التكفيرية وعلى راسها جماعة الأخوان المسلمين، وبالإستناد إلى مبدأ “الفوضى الخلاقة”، التي تبنتها إدارة الرئيس اوباما، ونظرت لها، وقادتها مستشارة الأمن القومي، كوندليزا رايس، وهو ما يبشر بإمكانية تغير حقيقي عبر إستعادة القوى الوطنية والديمقراطية زمام المبادرة لوقف حالة الإنحدار المريع في النظام الرسمي العربي، وإعادة الإعتبار لقوى التغيير الحية. وبقدر ما تتقدم ثورتي السودان والجزائر في تحقيق أهدافها، بقدر ما تسرع في خطى التحول الديمقراطي ببلوغ الموجة القادمة من ثورة الربيع العربي الحقيقي