نقف اليوم أمام انكسار جديد في المسار الديمقراطي بعد الشرخ الكبير الذي حدث في الجبهة الشعبية، وما تبعه من انسلاخ بعض مكوناتها عن الخيط الناظم لها، واستقالة تسعة نواب من كتلتها البرلمانية ما أدى لفقدانها لـ”صفتها القانونية وكتلتها” وبالتالي “حصول شغور في منصب مساعد رئيس مكلف بالرقابة على تنفيذ الميزانية” وفق بيان مجلس نواب الشعب، وبقدر ما أسعد الخبر بعض الشامتين والمتربصين بها، بقدر ما نراه محبطا ومنذرا بانتكاسة سياسية تتعدى الحدود الحزبية الضيقة للجبهة ومكوناتها لتلقي بتداعياتها على الوضع العام للبلاد، فـ”الجبهة الشعبية” ككيان موحّد مثّلت أنموذجا رائدا في التجانس والتكامل والعمل المشترك رغم التباينات البينية، ولعبت دورا محوريا في “العبور السلس” وتخطي عديد المطبات التي كانت تعج بها المرحلة الانتقالية، وهي الوحيدة التي دفعت ضريبة الدم نتيجة مواقفها الصلبة ورقابتها الصارمة لما يحاك من مؤامرات ودسائس كادت تردي البلاد في ما لا يحمد عقباه.
والى ذلك ليس من باب العدل والانصاف أن نجعل من الائتلاف الحاكم شماعة ليعلّق عليها من شاء كل السقطات والهنات التي يعرفها، ذلك أن طبيعة الأشياء تستوجب بعضا من الحكمة والفطنة والرصانة، إذ أنه من المحال أن نطالب من ائتلاف حكومي مغرق في “ليبراليته ويمينيته” أن يرعى خصومه أو أن يحدث تغييرا عميقا وجوهريا في المجتمع الذي رشّحه وصوّت له وراهن عليه، خصوصا وأن شروط إمكان فوزه مرات متتالية مثنى وثلاث ورباع تستلزم بقاء الأوضاع على ما هي عليه، وبالتالي فأي مساس بالواقع الاجتماعي والاقتصادي سيعزّز من فرص خصومه في الاطاحة به في مستقبل الاستحقاقات، لذلك عبثا سعى بعض الأطراف التي تدرج نفسها في صف المعارضة وتتحدّث عن “إصلاحات” وتعديلات سطحية، وتتصرّف “كالمومس بين الخمارات” تنتظر أدنى اشارة كي تلحق بالركب الآخر و”تخون” كما دأبت صف رفاق الدرب لا ترعى فيهم إلاّ ولا ذمّة.
قطعا لا نتحدّث عن “معارضة” البزنس والمقاولات، ولكن عمن كنا نتوسّم فيهم خيرا وبين دفاترهم يركن مشروع وطني للإنقاذ، إذ أن قوام الديمقراطية في كل بقاع الأرض لا تقوم فقط على ثنائية أحزاب حاكمة وأخرى معارضة، بقدر ما هي “جدلية” (بالمعنى الهيغلي) بين برامج متنافسة تهم الشأن العام، وبالتالي فالقوّة والأفضلية والأحقية ليست لموفور العدد كثير الأنصار ومن اكتنز من الأموال والهبات الشيء الكثير، بل لصادقي الوعود ونظيفي اليد والمنحازون لفئات الشعب، وهي صفات خلت أو كادت من الصف الآخر الذي تنكّر لوعوده ما إن وطئت قدماه “قصور” السلطة، وليس الأمر غريبا عنهم……ولسنا ننكر أن الكفّة رجحت لمن امتلك “مالا” أكثر حتى حوّل المحطّات الانتخابية السابقة الى “مذابح” للديمقراطية، غير أن أكبر استفادة حازوا عليها كانت من خلال تشتّت القوى “الوطنية” و”الديمقراطية” و”التقدّمية” التي أسهمت بعثرتها و”صراع الديكة” اللامبرّر بينهم في فوز خصومهم وتجاوزهم.
ونحن لا نريد معارضة واحدة كي لا “تتدَكْتَر” جبهة الرفض وتتجمّد قوّة الاقتراح، وإنما نحتاج لمعارضة موحّدة تجمعها “خارطة طريق” أملا في إنقاذ ما تبقى أمام تغوّل ليبرالية التوحّش وسيطرة رأس المال المعولم على دواليب البلاد.