مستشار الامن القومي للرئيس ترامب بولتون على ما يبدو بدأ يعد العدة للقضاء على معاهدة “نيو ستارت” وهي آخر المعاهدات التي وقعت بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية عام 2010 للحد من الاسلحة الهجومية الاستراتيجية والتزام الطرفين بالخفض التدريجي لعدد الرؤوس النووية التي تمتلكها البلدين على مدى 10 سنوات. وفي المجمل فإن الطرفان ابديا التزاما بهذه المعاهدة الهامة ولكن السيد بولتون المتحفز دائما للحروب والذي يتمتع بالرغبات العدوانية الجامحة والذي ما زال يطمح ببناء الامبراطورية الكونية الامريكية لتحقيق حلم زبانيته من المحافظين الجدد, يبدي دائما إمتعاضه من اية بوادر لتحقيق الاستقرار في اية بؤرة في هذا الكون الفسيح. فما بالك عندما يقتصر الامر بين أمريكا الذي تعيش حالة من التراجع على الساحة الدولية وروسيا الاتحادية كقوة صاعدة ووازنة على هذه الساحة والتي استطاعت ان تلجم العربدة الامريكية الى حد كبير كما هو الحال في فنزويلا مؤخرا بعد ان كانت البساطير الامريكية والعملاء والخونة القابعين في فنادق كولومبيا جاهزون للتدخل العسكري المباشر.
ومن هنا لم يكن مستغربا ان يقوم بولتون بوصف المعاهدة في خطاب القاه قبل اسبوع بانها “جيدة مثل الموتى” وعلى انها “معيبة” منذ البداية لانها لم تشمل الاسلحة النووية التكتيكية قصيرة المدى او انظمة إيصال روسية جديدة. وللاشارة الى عدم نيته للدفع في تجديد المعاهدة (المعاهدة ستنتهي صلاحيتها في فبراير 2021 ) تساءل بولتون مؤخرا في الكلمة التي القاها في المؤتمر السنوي الحادي والاربعين للطلبة من حزب المحافظين في واشنطن : “لماذا تمد النظام المعيب لمجرد القول إن لديك معاهدة”. وقد اصبح واضحا انه عندما يقول بولتون عن اية إتفاقية أنها تحتوي على “عيوب” فإن هذا يعني ببساطة انه يسعى الى وأد هذه الاتفاقية أو الانسحاب منها كما حصل مع إيران بالنسبة للاتفاقية التي وقعت بينها وبين الست دول الكبرى حول برنامجها النووي. وذلك لان إدارة ترامب وبناء على توصيات مستشاره للامن القومي ووزير خارجيته وطاقم قرع طبول الحرب يريدون تركيع إيران واستخدام العقوبات الاحادية الجانب لتغيير النظام في إيران ومحاصرتها.
الاتفاقيات توقع بين بلدين أو أكثر تمثل بالعادة موقفا توفيقيا وتنازلا من قبل الاطراف الموقعة على الاتفاق. وإذا ما كانت النوايا حسنة وشعر طرف انه قد وقع عليه بعض الغبن فبعد انتهاء صلاحية الاتفاقية يعاد التفاوض مرة اخرى للوصول الى إتفاقية جديدة. وهذا هو الطريق السليم وخاصة عندما نتحدث على إتفاقيات تمس الامن والاستقرار الدولي وبين قوتين نوويتين يمتلكان ما يكفي لتدمير العالم ربما عشرات المرات. ولكن بعض أفراد هذه الادارة لا يمتلكون اية مقومات للتفكير المنطقي السليم لان همهم الرئيسي هو الهيمنة وتحقيق السطوة الامريكية وتدمير كل من يقف في طريق تحقيق هذا سواء كانت دولة أو حزب او تنظيم او إتفاقية موقعة من قبلها. فكم إتفاقية دولية انسحبت منها إدارة الرئيس ترامب لغاية الان وما هي الاسباب الحقيقية وراء انسحاباتها؟ ولماذا هاجمت مؤسسات الامم المتحدة وسحبت دعمها لها مثل الانروا على سبيل المثال ولجنة حقوق الانسان التابعة للامم المتحدة؟ ليس الغرض هنا مناقشة إنسحابات الولايات المتحدة من الاتفاقيات الدولية الموقعة بينها وبين دول أو جهات ومؤسسات دولية وهي كثيرة. ولكن الغرض هو تبيان ان الولايات المتحدة وخاصة ضمن إدراة الرئيس ترامب لا تعطي اية أهمية أو إحترام لهكذا إتفاقيات وبالتالي فقد فقدت الولايات المتحدة إحترامها ومصداقيتها من الصديق قبل العدو.
إن القضاء على معاهدة “نيو ستارت” وهو بالتأكيد ما يسعى له بولتون يعني دفن آخر إتفاقية للحد من سباق التسلح وخاصة النووية منها والموقعة مع روسيا الاتحادية. وماذا يعني هذا؟ هذا يعني بعث الحياة من جديد في سباق التسلح. هذا يعني العودة الى الوراء الى زمن الحرب الباردة وختى إذا لم يستخدم هذا التعبير لوصف الحالة الجديدة. هذا يعني اننا سندخل مرحلة جديدة من مراحل التصعيد وزعزعة الامن والاستقرار الدولي. هذا يعني ان الدول الاخرى ستنحى الى بناء قدراتها النووية أيضا واستخدامها كقوة ردع للحفاظ على امنها. هذا يعني فقدان الولايات المتحدة لما تبقى لها من رصيد الثقة والمصداقية على الساحة الدولية. هذا يعني تقديم الدعم للمجمعات الصناعية العسكرية في الدول الغربية والتي تعتاش وتحقق الارباح الطائلة نتيجة سباق التسلح وإراقة الدماء, ان تعمل على إنتاج المزيد من اسلحة الدمار الشامل. هذا يعني فتح المجال لتعريض العالم أجمع الى حرب نووية تقضي على الاخضر واليابس والبشرية جمعاء.
بولتون يقف ضد هذه المعاهدة لانها تعمل على تقييد الولايات المتحدة وتقلل من ترسانتها من الاسلحة الاستراتيجية النووية على وجه التحديد, وهو المعروف بمواقفه المناهضة للحد من التسلح. ما يريده بولتون هو إطلاق يد الولايات المتحدة وخاصة في مجال إمتلاك الاسلحة الاستراتيجية. هذا في الوقت الذي ينادي فيه بإخضاع بعض الدول وخاصة تلك التي لا تدور في الفلك الامريكي للمراقبة الدولية بشأن أسلحتها النووية والصواريخ الباليستية وغيرها من الاسلحة الاستراتيجية. وهذا واضح من خلال تعامل الادارات الامريكية المتعاقبة مع إيران وكوريا الشمالية وروسيا والصين على سبيل المثال. بينما عندما يقف الامر على ترسانة الكيان الصهيوني تظهر على السطح المواقف والمعايير المزدوجة ويتم التغاضي عن ترسانتها النووية والوقوف بوجه الدعوات التي تطالب هذا الكيان بالافصاح عن برامجه النووية وإخضاع منشآته النووية للمراقبة الدولية كما هو الحال مع إيران مثلا.
عندما يتحدث بولتون عن نية الولايات المتحدة على عقد إتفاقات أكثر طموحا وأكثر شمولية يدرك الجميع انما هذه ما هي الا وسيلة يحاول فيها التستر على حقيقة انه لا يريد وجود معاهدات للحد من الاسلحة وعن رغبته الجامحة في التدمير الذي تجلت مؤخرا في الدعوة والترتيب للتدخل العسكري المباشر في فنزويلا والذي احبط في اللحظات الاخيرة من قبل كولومبيا عنما ادركت السلطات الكولومبية انها آخر من يعلم بأمر الهجوم المخطط باستخدام اراضيها دون علمها.
لقد وقف بولتون ضد اي تقارب بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية بعد ان كان هنالك بصيص من الامل على إضفاء نوع من الاستقرار وخفض التوترات في شبه الجزيرة الكورية ورفع العقوبات الجائرة تدريجيا عن كوريا الشمالية وعمل على إفشال ما كان من الممكن التوصل اليه بين ترامب وكيم جونغ أون زعيم كوريا الشمالية.
ما ستؤول اليه معاهدة “نيو ستارت” إذا ما بقي هذا المتعطش للدماء وإثارة الحروب وزيادة التوتر وزرع بذور التفرقة على الساحة العالمية كممثل للتيار الاكثر تطرفا في امريكا والمحابي للمجمع الصناعي العسكري الامريكي, إذا ما بقي في إدارة ترامب لا يبشر بالخير.