ماذا يعني الإصرار الرسمي السعودي على إبقاء مجاهد فلسطيني معروف في السجن على مدى العامين الماضيين، دون تهمة حقيقية، في الوقت الذي يبلغ فيه 83 عاماً، ويعاني من أمراض مزمنة، وخضع لجراحة من مرض السرطان، بينما ازدادت حالته سوءاً في الأيام الماضية نتيجة عدم تلقي الرعاية الكافية.
المجاهد الدكتور محمد الخضري عمل في وضح النهار ممثلاً لحماس لدى السلطات السعودية على مدى نحو عشرين عاماً، وتابع بعد ذلك عمله لفلسطين ضمن السقف السعودي المعروف، منذ عشرات السنين.
هل يليق هكذا تعاملٍ مع مجاهدٍ كرَّس حياته لفلسطين طوال حياته، منذ أن كان مساعداً لخليل الوزير (أبو جهاد) في التنظيم العسكري الخاص للإخوان في النصف الأول من خمسينيات القرن العشرين، وبعد أن تخرج من كلية الطب ليشارك مع الجيش الكويتي في حربي 1967 و1973، على الجبهات المصرية والسورية، وليكون بعد ذلك من مؤسسي حماس، التي تقصر عملها المقاوم ضدّ العدو الصهيوني في داخل فلسطين، ثم ليمسي من رموز العمل الفلسطيني الشعبي في الخارج.
وهل يليق هكذا تعاملٍ مع الصحفي والكاتب السياسي والناشط في العمل الخيري الأستاذ عبد الرحمن فرحانة، الذي يعاني من مرارة السجن في السعودية منذ أكثر من عامين أيضاً، كما يعاني من أمراض مزمنة؟!
هذان الرمزان، وغيرهما العشرات من المعتقلين الفلسطينيين في السعودية، على ذمة العلاقة مع حماس أو جمع التبرعات لفلسطين، واللذين يعانون منذ أكثر من عامين من مرارة السجن، والاعتقال دون محاكمة أو دون تُهم محددة، أو من “مطمطة” جلسات المحاكمة دونما مبرر؛ والذين تتحدث التقارير أنهم تعرضوا للتعذيب لانتزاع اعترافات محددة منهم، بحيث شابت عمليات التحقيق وإجراءات المحاكمة وبيئة الاعتقال ظروف تطعن في أي مصداقية محتملة لسير العملية القضائية.
هؤلاء الأشخاص والرموز ليسوا تجار مخدرات ولا إرهابيين، ولم يعملوا لحظة ضدّ السعودية وضدّ استقرارها. إنهم رموز يُشرِّفون الأمة، عملوا بهدوء ونشاط ضمن البيئة السعودية المتاحة، منذ عشرات السنوات، ودون أن يكونوا بعيدين عن أنظار السلطات، على دعم صمود شعب فلسطين، وعلى المحافظة على هوية فلسطين العربية والإسلامية. فإذا لم تعد السلطات السعودية قادرة على مجرد تحمُّل العمل الخيري لفلسطين، فلا أقل من أن تُطلق سراحهم، أو تسمح لهم بمغادرة البلد.
ربما كان مفهوماً في الإطار السياسي تفسير حملة الاعتقالات التي طالت هؤلاء الأبطال والرموز؛ في ضوء وجود ترامب في الرئاسة الأمريكية وتبنيه “صفقة القرن”، وممارسته لضغوط استثنائية على الأنظمة العربية للتطبيع مع الكيان الصهيوني، وتجفيف موارد الدعم للشعب الفلسطيني، ومحاربة ما يُسمى “الإسلام السياسي”. غير أنه مع سقوط ترامب، وقدوم بايدن، تراجعت حظوظ “صفقة القرن” كما خفَّت الضغوط، ولو نسبيًّا، على الأنظمة العربية باتجاه فرض التطبيع مع الكيان الصهيوني.
وعلى ما يبدو، فإن ثمَّة اتجاهين في المطبخ السياسي السعودي تجاه القضية الفلسطينية:
الأول ما زال مندفعاً باتجاه التطبيع، وباتجاه العداء ضدّ “الإسلام السياسي”، ومسكوناً بالحصول على الرضا الأمريكي والإسرائيلي، حيث يَتوهّم أن ذلك يخدمه لتحقيق الاستقرار الداخلي للنظام، وفي مواجهة التحديات الخارجية خصوصاً في البيئة الإقليمية، وبما يُسهِّل انتقالاً سلساً لولي العهد لتولي الحكم خلفاً لوالده.
أما الاتجاه الثاني، والذي وإن ضعف في السنوات الأخيرة، لكنه ما يزال حاضراً في صناعة القرار، وربما ازدادت عناصر قوته مؤخراً، بعد استلام بايدن لزمام الرئاسة الأمريكية، وبعد فشل الاتجاه الأول في إدارة أزماته الإقليمية وملفاته الاقتصادية وحتى ملفاته الداخلية. هذا الاتجاه يرى التَّريث في أي علاقة محتملة مع الكيان الإسرائيلي، وربط ذلك بالمبادرة العربية، كما لا يرى ضرورة لتوتير علاقات السعودية الإقليمية، أو دفع أثمان لا داعي لها. وهو لا يرى في العلاقة مع “إسرائيل” حماية للسعودية من خصومها الإقليميين، وأنّ ذلك لن يسهم إلا في صب مزيد من الزيت على النار، وفي إضعاف صورة النظام ومكانته لدى الشعب السعودي، ولدى الشعوب العربية والإسلامية. بالإضافة إلى أن عملية قمع “الإسلام السياسي” قد فشلت، كما أن محاولة شطب حماس وقوى المقاومة قد سقطت أيضاً.
وبالتالي لم يعد ثمة منطق في بقاء “معتقلي حماس” في السجون، وهو بقاءٌ لا يخدم شيئاً سوى الإساءة لصورة النظام السعودي.
وما دام ثمة اتجاه سعودي لفكفكة الأزمة مع قطر، وإيجاد حلول سياسية في اليمن، ومراجعة التموضع السياسي الإقليمي، وحتى في طبيعة العلاقة مع إيران، فلا أقل من إطلاق سراح هؤلاء المعتقلين، الذين يُعدّ ملفهم أسهل الملفات.
من جهة أخرى، فإنَّ مسار المصالحة الفلسطينية، واتجاه البيئة الفلسطينية الداخلية، نحو إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، وإجراء الانتخابات (بغض النظر عن المدى الذي ستصله) هو اعتراف لا لبس فيه، بأنَّ حماس جزء أساس وفعّال وقوي، ولا يمكن تجاوزه في المعادلة الفلسطينية.
وهو رسالة إلى الأنظمة العربية بما فيها السعودية أن حماس وقوى المقاومة، وحتى “الإسلام السياسي” حاضرٌ فعلاً (أحبوا أم كرهوا) في صناعة القرار الفلسطيني؛ وأن السعودية وغيرها من الأنظمة سترى حماس ومعها قوى المقاومة عاجلاً أم آجلاً شريكاً، إن لم يكن قائداً، في قيادة الشعب الفلسطيني؛ وسيكون التعامل الطبيعي الإيجابي معها دون ملفات توتير، هو الخيار الأفضل.
وعليهم بالتالي، أن يعلموا أن هذا النوع من الاعتقالات قد تجاوزه الزمن، وفقد قيمته؛ أما قضية فلسطين والدفاع عنها فهي حاضرة وعميقة في قلوب الشعب السعودي والشعوب العربية والإسلامية، وأن النظام السياسي الذي يدعم فلسطين إنما يخدم نفسه (ولو بحسبة المصلحة والمنفعة)، وأن النظام الذي يلاحق المجاهدين ويسجنهم، أو يطارد أوهام التطبيع والرضا الأمريكي الإسرائيلي، فلن يضرَّ إلا نفسه.
المصدر: عربي 21