عبارة كتبها متظاهرون عراقيون على جدار السفارة الأميركية في بغداد، والأولى أن نكتبها في معظم دولنا على جدران شوارعنا، ومقار حكوماتنا، ومجالس نوابنا، وجدران السفارات التي ترهن إرادة أمتنا، وتعتدي على سيادة أوطاننا.
في عام 1998هاجمت مجموعة من الشباب معظمهم من الطلاب، وبشكل خاص طلاب من الجولان السوري المحتل، السفارة الأميركية في دمشق بعد قصف أميركي- بريطاني للعراق. تسلق الشباب جدران السفارة وأنزلوا العلم الأميركي وأحرقوه. يومها طلبت مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأميركية، اعتذاراً رسمياً سورياً، لكن الرد السوري كان الرفض المطلق.
في عام 1979 اقتحمت مجموعة من الطلاب الإيرانيين السفارة الأميركية في طهران، واستولوا على آلاف الوثائق السرية التي تثبت تورط الولايات المتحدة في الكثير من المؤامرات على المنطقة. كان المخطط للعملية أن تكون سريعة، لكن الدعم الشعبي الإيراني، بما في ذلك دعم الإمام الخميني نفسه، أدى لاستمرار العملية مدة 444 يوماً، بما في ذلك احتجاز 52 أميركياً، ولم تنتهِ العملية إلا بطرد الشاه، فلم يجد من يستقبله سوى أنور السادات إبان تورطه في مستنقع كامب ديفيد، حيث عاش الشاه ومات طريداً.
في كل مرة أتيحت فيها الفرصة للجماهير للتعبير عن وعيها النضالي الحقيقي، كان الهدف «وكر الجواسيس» الأميركي في بلادها. ولكن في كل مرة تنجح فيها الرأسمالية العالمية وعملاؤها في حرف البوصلة عن العدو الحقيقي المحتل لأرض العرب والمتسلط على أقدارهم، نرى تضحيات الجماهير تذهب هباءً لتصب في مصلحة عدوها الوطني والطبقي، كما حدث فيما يسمى «الربيع العربي».
في العدوان الأميركي على مقار الحشد الشعبي قرب الحدود العراقية – السورية، ولاحقاً عملية الاغتيال الإجرامية للقائدين الفريق قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس ورفاقهما المقاومين، أرادت الإدارة الأميركية إرسال رسالة واضحة، وتحقيق جملة من الأهداف. أما الرسالة فهي زعم واشنطن القدرة على استهداف محور المقاومة وإرباك خططه في التصدي للمشروع الاستعماري في المنطقة. هذه الرسالة وجدت أصداء مؤيدة في تل أبيب، والرياض، بينما لاذت بقية دول المعسكر الأميركي بصمت من يخشى افتضاح فرحته.
وأما الأهداف فهي أن الولايات المتحدة تعتقد أن بإمكانها وضع محور المقاومة أمام خيارين يصبان في مصلحة المشروع الأميركي، فإما استيعاب العمليتين وعدم الرد، وهذا بالتأكيد سيهز مصداقية محور المقاومة ويشكك في قدراته.. وإما الرد المباشر، الذي يتيح لعصابات الجيش الأميركي توجيه ضربات عدوانية قاسية لقوات المقاومة وحلفائها في العراق وسورية ولبنان، ويعوق قدرتها على الاستمرار في تنفيذ خطتها العسكرية القائمة على طرد التنظيمات الإرهابية من العراق وسورية، وتحقيق النصر النهائي.
أما داخلياً فلا يملك ترامب في سياسته الخارجية إنجازات قادرة على تعويض الأزمة الداخلية التي يتعرض لها في ظل نجاح «الديمقراطيين» في هز صورته الشعبية، ما يؤثر في فرص إعادة انتخابه، لذلك، فإن هذه الاعتداءات الإجرامية ستستخدم على أنها «إنجازات» لإدارة ترامب.
ردّ محور المقاومة على الهجوم الأول، كان في الشارع العراقي الذي اعتقدت الولايات المتحدة أنها جيشته لمصلحتها، فاقتحم المتظاهرون العراقيون السفارة الأميركية في بغداد، وسببوا حالة من الذعر في الدوائر الأمنية والدبلوماسية الأميركية، أعادت إلى ذاكرتها ما حدث في طهران عام 1979 وبنغازي عام 2012 عندما أحرق الليبيون القنصلية الأميركية وقتلوا أربعة أميركيين بمن فيهم السفير كريستوفر ستيفنز.
أما الرد الإيراني على جريمة الاغتيال، فحمل ما يمكن عدّه مفاجأة للولايات المتحدة وحلفائها. فعبر عمر الأزمة التي انطلقت في عام 2011، اكتفى محور المقاومة بتطوير قدرته على الرد والردع تجاه الاعتداءات التي يقوم بها العدو. ما أطلقه السيد حسن نصر الله، في خطابه في تأبين الشهداء سليماني والمهندس ورفاقهما، نقل المعركة إلى مستوى جديد هو مستوى الهجوم. لقد حدد سماحته الهدف المتمثل بطرد الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، وحدد الأسلوب المتمثل باعتبار كل جندي وضابط وبارجة وقاعدة أميركية هدفاً مشروعاً لعملية القصاص العادل.
في التوقيت نفسه كان البرلمان العراقي يطلب من الحكومة إنهاء الاتفاق الأمني مع العدو الأميركي، ومنع تحليق طائراته في الأجواء العراقية. هذا القرار يحمل أهمية قانونية تنزع عن الوجود الأميركي صفة الشرعية. وبغض النظر عن التزام الولايات المتحدة بهذا القرار من عدمه، فإن حضورها في العراق أصبح يُعد احتلالاً من الناحية القانونية، كما إن هذا القرار يعدّ الخطوة الحقيقية الأولى باتجاه التخلص من تبعات الاحتلال الأميركي الجاثم على صدر العراق منذ عام 2003.
يتساءل أحد المحللين، أليست معركة التحرر قائمة دائماً، لماذا انتظر محور المقاومة حتى اغتيال قائدين كبيرين من قادته ليعلنها حرباً شاملة على العدو الأميركي؟
بقدر ما يبدو السؤال منطقياً، فهو يفتقر إلى العمق التاريخي، فالأحداث الكبيرة في العالم تحتاج إلى نقطة إشعال، تسمح بالانتقال في المواجهة من حالة إلى حالة. على سبيل المثال كان اغتيال ولي العهد النمساوي نقطة اشتعال الحرب العالمية الأولى. بالتأكيد لم يكن سبباً لتلك الحرب التي تراكمت أسبابها الاقتصادية والسياسية على مدى عقود، لكن الاغتيال كان من دون شك نقطة اشتعال الحرب.
الحديث اليوم إذاً ليس عن رد على شكل عملية ثأرية جاءت لتؤكد قرار التحول إلى الهجوم ونوعاً من رد الاعتبار من دون أن تكون نهاية الحدث، بل يمكن عده إعلاناً لبدء العملية الحقيقية التي ستأخذ وقتاً للتخطيط والتنفيذ، أي عملية إخراج القوات الأمريكية من المنطقة.
لقد أعلن محور المقاومة أن شروط المواجهة تغيرت، وأنه كان يمتلك القوة، واليوم سيتقدم ليمتلك زمام الأمور. من هنا تأتي أهمية قرار البرلمان العراقي، واستعادة الزخم في معركة تحرير إدلب، ودعم الجيش اليمني في مواجهة العدوان السعودي. الحديث اليوم عن معركة بشروطنا، وبأهداف محددة مسبقاً؛ لطرد الجيش الأميركي من المنطقة. ستكون هناك مفاجآت وضربات قاسية من طرف أعدائنا أو من طرف أعدائنا لأنها الحرب، لكننا الآن نخوض حرباً نعرفها تماماً، خضنا فصولاً منها ونحن جاهزون للانطلاق نحو هدفنا النهائي. لن يكون نصراً سريعاً وخاطفاً، لكنه نصر أكيد، وواضح وضوح دماء الشهداء الذين رسموا طريقه.
*كاتب من الأردن