إعادة خلط الأوراق، سياسة تدخل في استراتيجيا الألعاب ونظرياتها المتقدمة، وهذا ما يحصل في واشنطن كلما ثأرت الجغرافيا السياسية وبلغ المخطط الفاشل الباب المسدود.
.. ويبدو أنّ سياسة الإرغام أحدثت ندوباً في السياسة الخارجية الأمريكية، وأن القائمين عليها يتحسسون حافة الانحدار بعد مسلسل من العقوبات العدوانية التي طالت دولاً كثيرة وساهمت في زعزعة استقرار التجارة الدولية. ففي الشرق الأوسط هناك سياسات بلغت مستوى تهديد تدفق المنسوب الأعلى للطاقة في العالم، كما أن فرض العقوبة في سياق الإرغام على دول مثل الصين وإيران وفنزويلاّ وغيرها من دون بلوغ الأهداف المتوخّاة يعني أن الموقف سيرتدّ عكساً على المصالح الأمريكية، إذاً لا سبيل للخروج من هذا المأزق إلاّ عن طريق التضحية بالمقاول الذي أحب أن يدير سياسة الإرغام بأسلوب المقاولات الصّغرى.
ويبدو جو بايدن هذه الأيام في كامل نشوته، وهو يرى الهيجان السياسي الذي يتجه نحو إدانة ترامب بخصوص مضمون المكالمة الهاتفية مع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، التي شكلت وثيقة أساسية استند إليها «الديمقراطيون» في تحريك مسطرة عزل ترامب.
يبدو أن الولايات المتحدة مشغولة هذه الأيام بمشكلات لها صلة بالانتخابات القادمة، وأنّ معارك قاسية ستشهدها الأيام المقبلة بين «الجمهوريين والديمقراطيين»، وهم في تسخينات دائمة استعداداً للاستحقاقات الانتخابية الرئاسية التي ستكون حُبلى بالمفاجآت، وربما ستكون هناك فجوة أو فتور تتنفس من خلاله المنطقة كما يبدو للبعض وهو ما يخالف حقيقة ما يجري بالفعل، وهي أنّ واشنطن تفتح فرجة جديدة «سبيكتاكل انتخابي» سيملأ الفضاء العام بالكثير من التكهنات وأحلام اليقظة والاسترخاء وهو مقصود هنا، لأنّ المخطط الاستراتيجي الأمريكي لا يتوقف على المهرجان الانتخابي، بل نحن أمام انقلاب لعبي للخروج من الباب المسدود. فالدولة الأمريكية العميقة تختار أسوأ الرجالات لإدارة البيت الأبيض وهي متمرسة في ذلك إذ إنها لا تأتي بالمميزين الكبار حتى يسهل عليها عزلهم بانقلابات من هذا القبيل، مجيئهم مثل رحيلهم، هم كائنات للاستعمال في سياق بدائل استراتيجية. وجب التفكير هكذا وإلاّ فهي مهزلة التحليل السياسي والاستراتيجي التي تجعلنا في دوّامة من الأفكار العقيمة.
إن سياسة الإرغام انتهت إلى نتائج عكسية أرغمت واشنطن ذاتها على ابتلاع الكثير من الخسائر التي واجهتها بأساليب المقاولات الصُّغرى كما ذكرنا، وهي سياسات تكسرت على واجهة الصمود، لأنّ الدول التي فرضت عليها العقوبات وكذلك فرضت حتى على كل من له مصلحة مع تلك الدول، هي دول لا يمكن إرغامها بهذه البساطة، بل لقد تحولت سياسة الإرغام إلى سياسة استفزازية قوّضت حتى المكتسبات السابقة وغيرت قواعد الاشتباك وعرّت القدرات العسكرية والتقنية للدولة العظمى، ما عزز وجهة النظر المسكوت عنها، ألا وهي أنّ واشنطن فقدت قدرتها على الهيمنة على المنطقة بل على العالم.
ليست الانتخابات هي التي جعلت ترامب يتجاهل الرد على التطورات التي تشهدها المنطقة، بل هو ثأر الجغرافيا السياسية وتحولات في صميم الخطط التي ستشهد في القادم من الأيام انعطافات مفاجئة.
كل هذه الحركات التي يشهدها مجلس النواب الأمريكي ليس الغاية منها سوى إنقاذ الموقف الأمريكي، والتضحية بترامب للانتقال إلى المخطط القادم ما بعد استراتيجيا الإرغام، ولكن علينا أن ندرك بأنّ كل شيء هناك يتمّ وفق «تقنيات الفرجة» تفادياً للسقوط الدراماتيكي وحفاظاً على الحدّ الأدنى من الثقة أمام الرأي العام الأمريكي.. والعالمي «بالتّفوّق» الأمريكي، وهذا إنما يعني أن واشنطن تدير سمعتها وعنوان «تفوقها» بسياسات إلهائية تعتمد فيها خلط الأوراق وكل شيء يجب أن يتمّ وفق استغلال براغماتي للقانون واستعمال سلطة التوقيت في تفجير الملفات، ولكن خلف كل ذلك توجد حقيقة فشل الجزء الأهم من مخطط سابق تم استنزافه، وبدت الضرورة ملحة لوضع المخطط البديل فوق طاولة الاستحقاقات القادمة.
*كاتب من المغرب